تمييز بين العزيمة والرخصة في الشريعة الإسلامية

استكشاف الفروق الجوهرية بين العزيمة والرخصة في الشريعة الإسلامية. تعريفات وأنواع وحكمة التشريع وأمثلة توضيحية.

في الشريعة الإسلامية الغراء، تتجلى مظاهر اليسر والتيسير في العديد من الأحكام، حيث توازن الشريعة بين الالتزام بالأوامر والنواهي وبين مراعاة أحوال المكلفين وقدراتهم. ومن أبرز مظاهر هذا التوازن، التفريق بين ما يُعرف بـ “العزيمة” و “الرخصة”. فالعزيمة هي الأصل في التشريع، وهي الحكم العام الذي يلتزم به المسلم في الأحوال الطبيعية، بينما الرخصة هي استثناء من هذا الأصل، يجوز للمسلم الأخذ بها في حالات الضرورة أو الحاجة. يهدف هذا المقال إلى توضيح مفهوم كل من العزيمة والرخصة، وبيان الحكمة من تشريع الرخص في الإسلام، مع ذكر أنواع الرخص وأمثلة عليها.

توضيح مفهوم العزيمة

يمكن تعريف العزيمة لغةً واصطلاحاً على النحو التالي:

العزيمة في اللغة: مشتقة من العزم، وهو التصميم المؤكد والإرادة القوية على فعل شيء. يقال: “عزم على الأمر” أي صمم عليه وقرر فعله بجدية.

العزيمة في الاصطلاح الشرعي: هي الحكم الشرعي الأصلي الذي لم يُبنَ على عذر أو ضرورة. بمعنى آخر، هو الحكم الثابت بدليل شرعي قطعي، دون وجود ما يعارضه أو يخفف منه. تشمل العزيمة جميع الأحكام التكليفية الخمسة: الواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح، لأنها جميعاً ثابتة بأدلة شرعية صحيحة.

تفسير معنى الرخصة

الرخصة أيضاً لها تعريف لغوي واصطلاحي:

الرخصة في اللغة: مأخوذة من “رَخُصَ” الشيء، أي لان وسهل. والرخص هو ضد الغلاء والشدة. والرخصة تعني التيسير والتسهيل في الأمور.

الرخصة في الاصطلاح: هي الحكم الشرعي الذي يخالف الحكم الأصلي (العزيمة) بسبب وجود عذر شرعي معتبر. أو هي: الحكم الشرعي الذي يتغير من حالة الشدة والصعوبة إلى حالة اليسر والسهولة، وذلك لوجود سبب أو عذر يقتضي هذا التغيير، مع بقاء السبب الأصلي الذي شرع الحكم ابتداءً. وعليه، فالرخصة هي تخفيف من الله -عز وجل- على عباده، ورحمة بهم، وتيسير عليهم في أداء التكاليف الشرعية في ظل ظروف معينة.

فالرخصة هي حكم شرعي جاء به الشارع -عز وجل-؛ توسيعاً وتسهيلاً على المكلّفين بسبب وجود عذر ما تتحوّل معه العزيمة إلى رخصة.

الهدف من إقرار الرخص في الإسلام

إنّ الحكمة من تشريع الرّخص في الشريعة الإسلاميّة تتجلى في عدة جوانب، منها:

  1. التيسير ورفع الحرج: الإسلام دين يسر وسماحة، ولم يأتِ ليشق على الناس أو يكلفهم بما لا يطيقون. فالرخص تخفف عن المكلفين وتزيل عنهم المشقة والعنت، وتتيح لهم أداء التكاليف الشرعية في ظروفهم الصعبة. كما قال الله -تعالى-:(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)،[٣]
  2. المحافظة على مصالح العباد: تساهم الرخص في الحفاظ على مصالح العباد في الدين والدنيا، فقد تبيح الشريعة بعض المحظورات أو تسقط بعض الواجبات مؤقتاً لحماية النفس أو المال أو العقل أو الدين.
  3. تحقيق العدل والمساواة: من خلال الرخص، تعامل الشريعة الإسلامية الناس بعدل وإنصاف، حيث تراعي ظروفهم المختلفة وقدراتهم المتباينة، ولا تكلف أحداً فوق طاقته.

وقد ثبت أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال:(إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وقَارِبُوا، وأَبْشِرُوا، واسْتَعِينُوا بالغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ وشيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ).[٤][٥]

أصناف الرخص في الدين الإسلامي مع أمثلة

يمكن تقسيم الرخص في الإسلام إلى عدة أنواع، منها:[٦]

  1. الرخصة في فعل المحظورات: وهي التي تبيح فعل المحرم عند الضرورة القصوى، مع بقاء التحريم قائماً من حيث الأصل. ومثال ذلك: الترخيص للمكره على النطق بكلمة الكفر، بشرط أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان. ففي هذه الحالة، يسقط الإثم عن المكره إذا نطق بكلمة الكفر خوفاً من القتل أو التعذيب الشديد، مع بقاء قلبه مؤمناً بالله ورسوله. فالامتناع عن النطق بكلمة الكفر عزيمة، فإن صبر حتى قُتِل كان مأجوراً، وإن نطق بها فلا إثم عليه؛ لوجود الإكراه مع ثبوت الإيمان والتصديق بالقلب. وحكم هذا النوع ترجيح الأخذ بالرخصة وترك العزيمة؛ لقوله -تعالى-:(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)،[٧]وقوله -تعالى-:(وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ)،[٨]
  2. الرخصة في ترك الواجبات: وهي الأعذار التي تبيح ترك الواجبات مؤقتاً، مع بقاء وجوب قضائها عند زوال العذر. ومثال ذلك: الترخيص للمسافر والمريض بالإفطار في شهر رمضان، مع وجوب قضاء ما أفطروا من أيام بعد زوال السفر أو المرض.
    وبما أنّ سبب الصيام قائم وهو دخول شهر رمضان، وسبب الترخيص كذلك موجود وهو السفر أو المرض، فيجوز لهما الصوم ويجوز لهما التأجيل إلى أيام أخر، ولا يجب عليهماالفديةإذا ماتا قبل القضاء، وحكم هذا النوع من الرخص جواز الأخذ به، ولكن الأخذ بالعزيمة أولى ما لم تؤدي إلى تهلكة.
  3. نسخ الأحكام في الشرائع السابقة:وهذا النوع رخصة مجازية؛ لأنّ الأصل لم يرد في شريعتنا ابتداء، ولا يجوز القيام به ولا العمل بموجبه قطعاً، ومثاله اشتراط قتل النفس وقطع الأعضاء في التوبة، ودفع ربع المال في الزكاة، وغير ذلك ممّا خففه الله -تبارك وتعالى- عنا، وجاءت مقابله أحكام ميسّرة وسهلة.
  4. ما سقط عن العباد بإخراج سببه:ومعناه أن يكون سبب الحكم ابتداء هو التخفيف عن الناس، مع أنّ الحكم يختلف إذا زالت الأعذار، وهذا النوع من الأحكام يعدّ رخصة مجازة عند الحنفية، وحكمه وجوب الأخذ بالرخصة وترك العزيمة، ومثاله: وجوبالقصر في الصلاة للمسافر، فلا يجوز عند الحنفيّة إتمام الصلاة في السفر.

المراجع

  1. أحكام التيمم دراسة فقهية مقارنة، لرائد بن حمدان الحازمي.
  2. معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة، لمحمد حسين الجيزاني.
  3. الموسوعة الفقهية الكويتية.
  4. الوجيز في أصول الفقه، لمحمد مصطفى الزحيلي.
Total
0
Shares
المقال السابق

تحليل معاني الرحمن والرحيم

المقال التالي

تمييز الكتابة العثمانية عن الإملائية

مقالات مشابهة