المحتويات:
مقدمة حول مفهوم الوطن في الشعر العربي
الوطن يمثل الملجأ الأول للشعراء العرب للتعبير عن مشاعرهم المختلفة، سواء كانت هذه المشاعر فرحًا أو حزنًا أو اشتياقًا. يعتبر الوطن مرآة تعكس الحالة الاجتماعية والسياسية التي يعيشها الشاعر في مختلف العصور. يمكننا من خلال الشعر تتبع مفهوم الوطن في مختلف العصور الأدبية وتحولاته.
لقد اتخذت رؤية الوطن في الشعر العربي أشكالاً مختلفة، وذلك بسبب اختلاف العصور والبيئات التي تحيط بالشاعر، بالإضافة إلى الظروف الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية، وخصوصية الشاعر نفسه ومشاعره تجاه وطنه وتجاربه التي انعكست على فكره وأدبه.
دلالة الوطن في الفترة الجاهلية
في العصر الجاهلي، كان معنى الوطن محدودًا ولم يكن له الدلالة الواسعة التي نعرفها اليوم. اقتصر هذا المعنى على جوانب قليلة:
النزعة القبلية والانتماء للعشيرة
كان الوطن يمثل المكان الذي ينتمي إليه الشاعر حتى الموت، ويعتز به وبقبيلته، ويحميها ويشعر بالولاء التام لها. كان مفهوم الوطن في هذه الفترة مقتصرًا على القبيلة والانتماء المطلق لها والدفاع عن أفرادها.
يقول عمرو بن كلثوم في معلقته:
لَنا الدُنيا وَمَن أَمسى عَلَيها
وَنَبطِشُ حينَ نَبطِشُ قادِرينا
سَمّى ظالِمينَ وَما ظُلِمنا
وَلكِنا سَنَبدَأُ ظالِمينا
سَقَيناهُم بِكَأسِ المَوتِ صِرف
وَلاقوا في الوَقائِعِ أَقوَرينا
وَنَعدو حينَ لا يُعدى عَلَينا
وَنَضرِبُ بِالمَواسي مَن يلينا
تَنادى المُصعَبانِ وَآلُ بَكرٍ
ونادوا يا لَكندة أجمعينا
فَإِن نَغلِب فَغَلّابونَ قِدماً
وَإِن نُغلَب فَغَيرُ مُغَلَّبين
مَلأْنا الَبرَّ حتّى ضاقَ عَنّا
وَنَحْنُ البَحْرُ نَمْلأُه سَفِينا
إذا بَلَغَ الفطامَ لَنا ولِيْدٌ
تَخِرُّ له الجَبَابِرُ سَاجِدِينا
الطلل والحنين إلى الديار القديمة
تجلى ذلك في الاشتياق إلى الوطن والشعور به من خلال البدء بذكر الأطلال في بداية القصائد وما تحمله من ذكريات ومواقف ممزوجة بالشوق والحنين إلى هذه الأماكن المهجورة. كان الإنسان في العصر الجاهلي كثير التنقل والترحال بسبب الحروب أو الجفاف، مما يترك في قلبه حسرة الابتعاد عن الديار وفراق الأحبة.
كان الشاعر الجاهلي دائم الترحال، لذلك كانت صورة الوطن لديه مرتبطة بالشوق والحنين إلى الديار القديمة.
يقول امرؤ القيس:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلِ
بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
فَتُوْضِحَ فَالمِقْرَاةِ لم يَعْفُ رَسْمُهَا
لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ
تَرَى بَعَرَ الأرْآمِ في عَرَصَاتِهَا
وَقِيْعَانِهَا كَأَنَّهُ حَبُّ فُلْفُلِ
كَأَنِّيْ غَدَاة َ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا
لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ
وُقُوْفًا بِهَا صَحْبِيْ عَليََّ مَطِيَّهُمْ
يَقُولُونَ لا تَهْلِكْ أَسًى وَتَجَمَّلِ
وَإِنَّ شِفَائِيْ عَبْرَةٌ مَهَراقَةٌ
فهل عندَ رسْمٍ دارسٍ من معوَّلِ
الوطن مرآة لما يشعر به
اتخذ الشاعر الجاهلي من الوطن مرآة تعكس حالته النفسية والعاطفية وما يعانيه من هموم وقضايا. عكس الوطن الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها المجتمعات من حوله. فالوطن هو الحضن الذي يحمل كل ما يشعر به الإنسان الجاهلي من هموم وأفراح وأحزان.
يقول عمرو بن كلثوم:
تَذَكَّرتُ الصِبا وَاِشتَقتُ لَمّا
رَأَيتُ حُمولَها أُصُلاً حُدينا
فَأَعرَضَتِ اليَمامَةُ وَاِشمَخَرَّت
كَأَسيافٍ بِأَيدي مُصلِتينا
أَبا هِندٍ فَلا تَعَجَل عَلَينا
وَأَنظِرنا نُخَبِّركَ اليَقينا
بِأَنّا نورِدُ الراياتِ بيضاً
وَنُصدِرُهُنَّ حُمراً قَد رَوينا
وَأَيّامٍ لَنا غُرٍّ طِوالٍ
عَصَينا المَلكَ فيها أَن نَدينا
وَسَيِّدِ مَعشَرٍ قَد تَوَّجوهُ
بِتاجِ المُلكِ يَحمي المُحجَرينات
تَرَكنا الخَيلَ عاكِفَةً عَلَيهِم
مُقَلَّدَةً أَعِنَّتَها صُفونا
وَأَنزَلنا البُيوتَ بِذي طُلوحٍ
إِلى الشاماتِ تَنفي الموعِدينا
وَقَد هَرَّت كِلابُ الحَيِّ مِنّا
وَشذَّبنا قَتادَةَ مَن يلينا
مَتى نَنقُل إِلى قَومٍ رَحان
يَكونوا في اللِقاءِ لَها طَحينا
يَكونُ ثِفالُها شَرقِيَّ نَجدٍ
وَلُهوَتُها قُضاعَةَ أَجمَعينا
دلالات الوطن في العصر الإسلامي
في هذه الحقبة، اتسع مفهوم الوطن ليحمل معانٍ جديدة لم تكن موجودة في العصر السابق:
المكان الذي يتلاءم وتعاليم الدين الإسلامي
كان لنزول الوحي والدين الإسلامي أثر كبير على المجتمع في تلك الفترة، خاصة على من دخل الإسلام وآمن بالرسول صلى الله عليه وسلم. أثر ذلك على طريقة تفكير الفرد، وانتقل الإنسان من النزعة القبلية إلى نظرة أكثر شمولية انعكست على نظرته للوطن والآخر.
عزز الإسلام قيم العدالة بين الناس، وأصبح التفاضل بينهم على أساس التقوى والفضيلة. لذلك سعوا إلى تأسيس الوطن الذي يلبي هذه القيم ويتناسب مع تعاليم الدين الإسلامي. على سبيل المثال، احتفى أهل المدينة بقدوم الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرين من المسلمين لتأسيس وطن يحقق مفاهيم الدين الإسلامي، وأنشدوا:
طلع الـبدر عليـنا مـن ثنيـات الوداع
وجب الشكـر عليـنا مـا دعــــا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطـاع
جئت شرفت المديـنة مرحباً يـا خير داع
قد لبثنا ثوبَ عزّ بعد تمزيق الرِّقاع
ربَّنا صلِّ علي من حلَّ في خير البقاعِ
شعور الغربة في الوطن
تجلى هذا المعنى في بداية هذه الفترة عندما آمن عدد قليل من الناس بالإسلام. شعر الشاعر الذي دخل الإسلام حديثًا بالاضطهاد والغربة في ظل الظروف المحيطة به والتضييقات التي تعرضوا لها. إضافة إلى حالة من الحنين إلى الأيام التي خلت حتى وإن تعارضت مع قيمهم الحالية.
يقول كعب بن زهير:
بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ
مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُجزَ مَكبولُ
وَما سُعادُ غَداةَ البَينِ إِذ رَحَلوا
إِلّا أَغَنُّ غَضيضُ الطَرفِ مَكحولُ
هَيفاءُ مُقبِلَةً عَجزاءُ مُدبِرَةً
لا يُشتَكى قِصَرٌ مِنها وَلا طولُ
تَجلو عَوارِضَ ذي ظَلمٍ إِذا اِبتَسَمَت
كَأَنَّهُ مُنهَلٌ بِالراحِ مَعلولُ
تفسير الوطن في العصر الأموي
مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية وبدء التأسيس الحقيقي لمفهوم الدولة، ازداد تغني الشعراء بالوطن، وتعددت الصور الفنية والأساليب الإبداعية التي استخدموها:
المكان الذي يستقر به
أصبح كل مكان يحل به الفرد هو وطن له، ويحتفي ويتغنى به. ازدهار العمران وحالة الرخاء التي أصبح يعيش بها الفرد في دولة مدنية ساهمت في تكثيف الحالة الإبداعية لديه ومده بأساليب فنية جديدة وصور إبداعية لم يكن يعرفها من قبل في الجاهلية، وانعكس كل ذلك على شعره.
يقول قيس بن الملوح:
أَلا حَبَّذا نَجدٌ وَطيبُ تُرابِها
وَأَرواحُها إِن كانَ نَجدٌ عَلى العَهدِ
أَلا لَيتَ شِعري عَن عُوارِضَتَي قَنا
لِطولِ التَنائي هَل تَغَيَّرَتا بَعدي
وَعَن أُقحُوانِ الرَملِ ما هُوَ فاعِلٌ
إِذا هُوَ أَمسى لَيلَةٌ بِثَرىً جَعدِ
هو الموطن الأصلي
الوطن هو المكان الأول الذي يسكنه الإنسان، ومهما سكن أو ارتحل بعد ذلك وعاش في قصور واستمتع برغد العيش، يبقى حنينه لوطنه الأول ومسقط رأسه.
تقول ميسون بنت بحدل:
لَبَــيْـتٌ تـخـفِـقُ الأرواحُ فـيـه
أحــبُّ إليَّ مــن قــصــرٍ مُــنـيـفِ
وأصــواتُ الريــاحِ بــكــل فَــجٍّ
أحــبُّ إلي مــن نَــقْـر الدُّفـوفِ
وبـكْـرٍ يـتْـبَـعُ الأظْـعـانَ صَـعْبٌ
أحـــبُّ إلى مـــن بَــغْــلِ زَفُــوفِ
وكــلبٌ يــنــبـح الطُـرَّاق عـنّـي
أحـــــبُّ إليَّ مـــــن قِــــطٍّ ألوفِ
ولُبْــسُ عــبـاءةٍ وتـقَـرُّ عـيْـنـي
أحــبُّ إليَّ مــن لِبْــسِ الشُّفــوفِ
وأكْـلُ كُـسَـيْـرَة فـي كِـسْرِ بَيْتي
أحــبُّ إليَّ مــن أَكْــلِ الرَّغـيـفِ
وخَــرْقٍ مِـن بـنـي عـمـي نـحـيـفِ
أحـــبُّ إليَّ مـــن عِــلْجٍ عــليــفِ
خشونَةُ عِيشتي في البدْو أشهى
إلى نـفـسي من العيشِ الظَّريفِ
فـمـا أبْـغـي سوى وطني بديلً
فـحـسـبـي ذاكَ مـن وطـن شـريِـف
أبعاد الوطن في الحقبة العباسية
كان للوطن في العصر العباسي معانٍ أكثر شمولية وجمالية في طرق التعبير عنها في الشعر العباسي:
الوطن هو الموطن الأصلي
يرتبط الوطن بأرض المنشأ الأولى التي يحبها الشاعر وينتمي إليها في حالة من الشوق والحنين. ظلت هذه الفكرة راسخة في الذهن وثابتة على مر العصور. تفنن الشعراء في هذا العصر في تجسيد الذكريات المتعلقة بالأيام الخوالي والحنين الشديد للوطن.
يقول أبو تمام:
نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى
ما الحُبُّ إِلّا لِلحَبيبِ الأَوَّلِ
كَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ الفَتى
وَحَنينُهُ أَبَداً لِأَوَّلِ مَنزِلِ
هو المكان الذي يعيش فيه
يعتبر العصر العباسي من أكثر العصور ازدهارًا وتحضرًا، حيث مثل قفزة نوعية في كل جوانب الحياة عن العصور السابقة. أهم ما ميز هذا العصر هو حالة الامتزاج بين الأمم المختلفة، وأصبح المكان الذي يسكنونه هو وطنهم ودارهم، وبذلك تغنى الشعراء. ارتبط مفهوم الوطن بالمكان الذي يعيش به الفرد، وتجسد الانتماء، والانتقال من دائرة الفرد الذاتية إلى روح المجتمع والتجسيد الفعلي لمفهوم الوطن.
يقول المعري:
فـيـا بَرْق ليس الكَرْخُ داري وإنما
رَمــانـي إليـه الدهـرُ مُـنْـذُ لَيـالِ
الاغتراب في أرض الوطن
الشعور بالاغتراب في أرض الوطن كان سائدًا بصورة كبيرة في تلك الفترة تبعًا لتعدد الأمم والأجناس في الدولة العباسية، وتعدد الثقافات المختلفة، والحالة الفكرية الفلسفية التي كانت سائدة آنذاك والتي عززت الشعور بالعزلة والاغتراب.
يقول الشاعر علي بن الجهم:
وَاِرَحمَتا لِلغَريبِ في البَلَدِ النازِحِ ماذا بِنَفسِهِ صَنَعا
فارَقَ أَحبابَهُ فَما اِنتَفَعوا بِالعَيشِ مِن بَعدِهِ وَلا اِنتَفَعا
كانَ عَزيزاً بِقُربِ دارِهِمُ حَتّى إِذا ما تَباعَدوا خَشَعا
يَقولُ في نَأيِهِ وَغُربَتِهِ عَدلٌ مِنَ اللَهِ كُلُّ ما صَنَعا
تصور الوطن في الأندلس
انعكست بيئة الأندلس على روح الشاعر العربي وشعره بطبيعتها الجذابة وجمالها الأخاذ، فاختلفت المفردات التي استخدمها الشاعر في وصف الوطن والحديث عنه وعن عناصره.
الحنين للموطن الأصلي
يظهر في شعر الشاعر العربي في هذا العصر حالة متأججة من الحنين للوطن الأصلي، وربما يعود ذلك للطريقة التي هاجر بها هؤلاء من أوطانهم وصولًا للأندلس إلى جانب الغربة التي يشعرون بها. يذكر أن عبد الرحمن الداخل – صقر قريش- عندما رأى في الأندلس نخلة وهو في طريقة استذكر وطنه، وأثارت الحنين لديه فأخذ يقول:
تــبــدت لنـا وسـط الرصـافـة نـخـلة
تـنـاءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فـقـلت شـبـيـهـي في التغرب والنوى
وطـول التـنـائي عـن بني وعن أهلي
نــشــأت بـأرض أنـت فـيـهـا غـريـبـة
فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
سقتك غوادي المزن من صوبها الذي
يـسـح ويـسـتـمـري السماكين بالويلِ
ارتبط الوطن بالقيمة الجمالية له
تغنى الشعراء في العصر الأندلسي بجمال الوطن وطبيعته الخلابة وبذلك ارتبط مفهوم الوطن لديهم بالقيمة الجمالية لديه، والعناصر الجمالية التي يتضمنها فهي قيمة حية ملموسة.
يقول ابن خفاجة:
وَصَقيلَةِ الأَنوارِ تَلوي عِطفَها
ريحٌ تَلُفُّ فُروعُها مِعطارُ
عاطى بِها الصَهباءَ أَحوى أَحوَرٌ
سَحّابُ أَذيالِ السُرى سَحّارُ
وَالنورُ عِقدٌ وَالغُصونُ سَوالِفٌ
وَالجِذعُ زَندٌ وَالخَليجُ سِوارُ
بِحَديقَةٍ ظَلَّ اللِمى ظِلّاً بِها
وَتَطَلَّعَت شَنَباً بِها الأَنوارُ
رَقَصَ القَضيبُ بِها وَقَد شَرِبَ الثَرى
وَشَدا الحَمامُ وَصَفَّقَ التَيّارُ
غَنّاءَ أَلحَفَ عِطفَها الوَرَقُ النَدي
وَاِلتَفَّ في جَنَباتِها النُوّارُ
فَتَطَلَّعَت في كُلِّ مَوقِعِ لَحظَةٍ
مِن كُلِّ غُصنٍ صَفحَةٌ وَعِذارُ
رثاء الوطن
وهي صورة مميزة في الحديث عن الوطن في العصر الأندلسي إذ ارتبطت صورة الوطن وهو في فترة ضعف بحالة من الحزن والأسى سيطرت على الشعراء عند الحديث عن الوطن وارتبطت به. ولعل أشهر ما قيل في ذلك قصيدة أبو البقاء الرندي في وصف الأندلس.
يقول أبو البقاء الرندي:
لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ
فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ
هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ
مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ
وَهَذِهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ
وَلا يَدُومُ عَلى حالٍ لَها شانُ
يُمَزِّقُ الدَهرُ حَتماً كُلَّ سابِغَةٍ
إِذا نَبَت مَشرَفِيّات وَخرصانُ
وَيَنتَضي كُلَّ سَيفٍ للفَناء وَلَو
كانَ ابنَ ذي يَزَن وَالغِمد غمدانُ
الوطن في العصر المملوكي والعثماني
غلب على هذه الفترة شعر الحماسة والفخر، وكان لصورة الوطن نصيب كبير من ذلك. عملت الأحداث السياسية المتتابعة في تلك الفترة دورًا كبيرًا في ذلك، وتعددت الأنماط الشعرية:
يقول شهاب الدين أبو شامة:
غلب التتار على البلاد فجاءهم
من مصر تركي يجود بنفسه
بالشام أهلكهم وبدد شملهم
ولكل شيء آفة من جنسهم
الوطن في الزمن الحاضر
في العصر الحديث، اتخذ مفهوم الوطن أنماطًا متعددة فكرية وفلسفية مميزة، وحمل دلالات مكثفة في بنيتها وأبعادها الفلسفية والثقافية.
الوطن في أرضه
تعددت المعاني التي يحملها مفهوم الوطن في الشعر العربي الحديث بحيث اشتمل على كل المفاهيم التي كانت في العصور السابقة بالإضافة إلى حالة من التغني بالأوطان بأسمائها وهويتها الجديدة التي باتت واضحة ومحددة في العصر الحديث والانتماء لها.
ساهمت نشأة الدول المدنية الحديثة بما حملته من طابع مميز بعكس حالة من الولاء الواضح للقطر الذي ينسَب الشاعر إليه، وظهر مفهوم جديد ارتبط بأشعار المناسبات المرتبطة بالمناسبات الوطنية المحددة لهذه الدولة.
- التغني بالوطن والانتماء الشديد إليه.
- التمسك بالعروبة والقومية العربية والتغني بذلك، والتحسر على ما أصاب الأوطان.
- المرأة (المحبوبة) وطن.
- شعور الغربة في الوطن.
يقول إبراهيم طوقان:
موطني الجَلالُ وَالجَمالُ
السَناءُ وَالبَهاءُ في رُباك
وَالحَياةُ وَالنَجاةُ
وَالهَناءُ وَالرَجاءُ في هواك
هَل أَراك
سالماً منعّماً
وغانِماً مكرّماً
هَل أَراك
في عُلا
تبلغ السماك
موطِني
مَوطِني
الشَباب لَن يَكلَّ
همُّهُ أَن تَستقلَّ
أَو يَبيد
نَستَقي مِن الرَدى
وَلَن نَكون لِلعِدى
كَالعَبيد
لا نريد
يقول نزار قباني:
هل في العيون التونسية شاطيء
ترتاح فوق رماله الأعصاب؟
أنا يا صديقة متعب بعروبتي
فهل العروبة لعنة وعقاب؟
أمشي على ورق الخريطة خائفاً
فعلى الخريطة كلنا أغراب
يقول نزار قباني:
قادم من مدائن الريح وحـدي
فاحتضني ،كالطفل، يا قاسيون
أهي مجنونة بشوقي إليها…
هذه الشام، أم أنا المجنون؟
إن تخلت كل المقادير عني
فبعيـني حبيبتي أستعيـن
جاء تشرين يا حبيبة عمري
أحسن وقت للهوى تشرين
ولنا موعد على جبل الشيخ
كم الثلج دافئ.. وحنـون
سنوات سبع من الحزن مرت
فيها الصفصاف والزيتون
شام.. يا شام.. يا أميرة حبي
كيف ينسى غرامـه المجنون؟
يقول الأخوين رحباني:
أنا يا عصفورة الشجن
مثل عينيك بلا وطن
بِي كما بالطفل تسرقه
أول الليل يد الوَسَنِ
واغتراب بي وبي فرحٌ
كارتحال البحر بالسفن
أنا لا أرضٌ ولا سكنٌ
أنا عيناك هما سكني
راجع من صوب أغنية
يا زمانا ضاع في الزمن
صوتها يبكي فأحمله
بين زهر الصمت والوَهَنِ
من حدود الأمس يا حلماً
زارني طيراً على غُصُنِ
أيُّ وهمٍ أنت عشْتُ به
كُنْتَ في البالِ ولم تَكُنِ
الوطن في المهجر
يتمثل ذلك في صورة الوطن المحمولة في القلب بما في ذلك من ذكريات ومواقف، والحنين الشديد إليه ووصف عناصره وكل ما يميزه من معالم وصفات.
يقول بدر شاكر السياب في حديثه عن وطنه العراق في الغربة:
الريح تلهث بالهجيرة كالجثام، على الأصيل
وعلى القلوع تظل تطوى أو تنشّر للرحيل
زحم الخليج بهنّ مكتدحون جوّابو بحار
من كل حاف نصف عاري
وعلى الرمال، على الخليج
جلس الغريب، يسرّح البصر المحيّر في الخليج
ويهدّ أعمدة الضياء بما يصعّد من نشيج
أعلى من العبّاب يهدر رغوه و من الضجيج
“صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عراق
كالمدّ يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ بي عراق
والموج يعول بي عراق، عراق، ليس سوى عراق
البحر أوسع ما يكون و أنت أبعد ما يكون
والبحر دونك يا عراق
بالأمس حين مررت بالمقهى، سمعتك يا عراق
وكنت دورة أسطوانة
هي دورة الأفلاك في عمري، تكوّر لي زمانه
في لحظتين من الأمان و إن تكن فقدت مكانه
هي وجه أمي في الظلام
وصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أنام
وهي النخيل أخاف منه إذا ادلهمّ مع الغروب
فاكتظّ بالأشباح تخطف كلّ طفل لا يؤوب
من الدروب
وهي المفليّة العجوز وما توشوش عن حزام
وكيف شقّ القبر عنه أمام عفراء الجميلة
فاحتازها.. إلا جديلة