مقدمة
منذ بداية الخليقة، ومع ظهور المجتمعات البشرية المختلفة، اقتضت حكمة الله أن يرسل إلى كل قوم من يرشدهم إلى الحقائق الكبرى: سر وجودهم، الغاية من حياتهم، وحقوق خالقهم عليهم. تجلت هذه الحكمة في إرسال الأنبياء والرسل، الذين اختص الله بعضهم بكتب سماوية لهداية الناس إلى طريق الرشاد والتوحيد. هذه الكتب، المعروفة بالكتب السماوية، سنستعرضها هنا وفقًا لزمن نزولها على الأنبياء، مع إبراز أهم المعلومات المتعلقة بكل منها.
صُحف النبي إدريس
هي الصحف التي أُنزلت على النبي إدريس، عليه الصلاة والسلام، المعروف في السريانية باسم خنوخ أو أخنوخ. سُمي إدريس لكثرة دراسته لكتب الله، حيث كان يحفظ صحف آدم وشيث، عليهما السلام. يُعتبر إدريس ثالث الأنبياء بعد آدم وشيث، ويُذكر أن عدد الصحف التي أُنزلت عليه بلغ ثلاثين صحيفة.
تتفق التفاسير الإسلامية والروايات اليهودية على نزول ألواح سماوية على إدريس، تعلم من خلالها أعمال البشر واحتوت على بعض أسرار الكون، وفقًا لما جاء في مخطوطات البحر الميت.
من بين الحكم والأمور التي دعا إليها النبي إدريس، عليه السلام:
- الدعوة إلى الإحسان وترك الجهل مع الخالق والمخلوقين.
- الدعوة إلى شكر الله وطاعته.
- تقديم النصح للملوك والحكام.
- البشارة بخاتم الأنبياء محمد، صلى الله عليه وسلم.
- الدعوة إلى العلم والحكمة.
صُحف النبي إبراهيم
هي الصحف التي أُنزلت على النبي إبراهيم الخليل، عليه الصلاة والسلام، وقد ذُكرت في القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى* بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى* إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى* صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) [الأعلى: 14-19].
كما ورد ذكرها في قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى* وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى* أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى* أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى* وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى* أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [النجم: 33-38]. وفي العديد من الآيات الأخرى التي تشير إليها بشكل مباشر أو غير مباشر.
قيل إن هذه الصحف أُنزلت في أول ليلة من رمضان، كما ورد في السند عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (أُنزِلَت صحُفُ إبراهيمَ أوّلَ ليلةٍ من رمضانَ، و أُنزلَت التوراةُ لستٍّ مَضَين من رمضانَ، وأُنزِلَ الإنجيلُ لثلاثِ عشرةَ ليلةً خلَتْ من رمضانَ، وأُنزِلَ الزَّبورُ لثمانِ عشرةَ خلَتْ من رمضانَ، وأُنزِلَ القرآنُ لأربعٍ وعشرين خلَتْ من رمضانَ).
يشير هذا الحديث أيضًا إلى مواعيد نزول الكتب السماوية الأخرى. ويُذكر أن عدد صحف إبراهيم بلغ عشرة صحائف، احتوت على العديد من الأمثال العظيمة، منها: “وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربَّه، وساعة يحاسب فيها نفسه، يفكر فيها في صنع الله – عزّ وجلّ- إليه، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب.”
كتاب التوراة
هو الكتاب الذي أُنزل على النبي موسى، عليه الصلاة والسلام، وقد ذُكر في القرآن الكريم، حيث قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44].
التوراة كلمة عبرانية تعني الشريعة أو الناموس. في الاصطلاح اليهودي، هي خمسة أسفار يعتقدون أن موسى كتبها بيده، ويسمونها (بنتاتوك)، أي الأسفار الخمسة. أُلحقت بها كتب أخرى لاحقًا، وهذه الأسفار هي:
- سفر التكوين: يتحدث عن خلق السماوات والأرض، وخلق آدم، عليه السلام، إلى وفاة يوسف، عليه السلام.
- سفر الخروج: يتحدث عن قصة بني إسرائيل بعد وفاة يوسف، عليه السلام، إلى خروجهم من مصر وما تلا ذلك.
- سفر اللاويين: يتضمن أمورًا تتعلق باليهود وشعائرهم الدينية.
- سفر العدد: معني بعد بني إسرائيل، ويتضمن توجيهات وحوادث حدثت معهم بعد الخروج.
- سفر التثنية: يعني تكرير الشريعة والأوامر والنواهي، وينتهي بذكر وفاة موسى، عليه السلام، وموضع قبره.
أما في الاصطلاح الإسلامي، فهي الكتاب المنزَّل على موسى، هدى ونور لبني إسرائيل، كما ذكر في الآية الكريمة. وقد أُنزلت التوراة في ست ليال خلون من شهر رمضان، كما ورد في الحديث المذكور في قسم صحف إبراهيم.
كتاب الزبور
هو الكتاب الذي أُنزِل على النبي داوود، عليه الصلاة والسلام، الذي يعود نسبه إلى إسحاق بن إبراهيم، عليهما السلام. تضمن هذا الكتاب الأناشيد والأدعية التي كان يترنم بها داوود، وهو عبارة عن مجموعة من مزامير داوود وسليمان وآصاف. كان يُضرب بنغمة داوود المثل؛ فإذا قام في محرابه يقرأ الزبور، تجتمع الطيور والوحوش لتصغي إليه.
وقد ورد ذكر الزبور في القرآن الكريم، في قوله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) [النساء: 163].
ما تضمنه الزبور كان مقتصرًا على التحميد والتمجيد، ولم يتضمن أحكامًا من حلال أو حرام، ولا فرائض ولا حدود، بل يقتصر على العظة والثناء، ويتكون من مئة وخمسين سورة.
أُنزل الزبور على داوود في ثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، بعد التوراة بأربعمئة واثنتين وثمانين سنة.
كتاب الإنجيل
هو الكتاب الذي أُنزِل على النبي عيسى، عليه الصلاة والسلام، وهو مكمِّل لرسالة موسى، ومتمِّم لتعاليم التوراة، وداعٍ إلى التوحيد والفضيلة والتسامح. لم يتضمن الإنجيل تشريعًا جديدًا، ولكنه واجه مقاومة واضطهادًا شديدًا، وسرعان ما فقد أصوله، وامتزج بالعقائد الباطلة وحُرِّف، وتعددت أناجيله، وتحول أتباعه من التوحيد إلى الشرك.
ذُكر الإنجيل في القرآن الكريم، حيث قال تعالى: (وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِين) [المائدة: 46]. وقد أُنزِل الإنجيل في ثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، كما هو مذكور في الحديث الوارد عن صحف إبراهيم.
القرآن الكريم
هو الكتاب الذي أُنزِل على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد، صلى الله عليه وسلم، وهو المتعبَّد بتلاوته، والمنقول بالتواتر، والمكتوب في المصاحف، من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس. أكمل الله بنبيه الدين، وأكمل الرسالة، وكان القرآن خاتم الكتب السماوية، وبقي محفوظًا من التحريف، وسيبقى إلى يوم القيامة.
احتوى القرآن الكريم على أخبار الأولين والآخرين، وخلق السماوات والأرض، وفصل فيه الحلال والحرام، وأصول الآداب والأخلاق وأحكام العبادات والمعاملات، وسيرة الأنبياء والصالحين، وجزاء المؤمنين والكافرين، ووصف الجنة دار المؤمنين، ووصف النار دار الكافرين، وجعله شفاء لما في الصدور، وتبيانًا لكل شيء، وهدى ورحمة للمؤمنين.
أما وقت نزوله، فله تنزيلان:
- الأول: نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وكان ذلك في ليلة القدر من شهر رمضان.
- الثاني: نزوله منجمًا على النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، في نحو ثلاث وعشرين سنة.
يتضح لنا أن تسلسل الكتب السماوية المعروفة يبدأ بصحف إدريس، ثم بصحف إبراهيم، ثم التوراة المنزلة على موسى، ثم الزبور المنزل على داوود، ثم الإنجيل المنزل على عيسى، ثم يُختتم بنزول القرآن الكريم على محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي نسخ جميع الكتب السابقة. ويُذكر أن جميع هذه الكتب السماوية تعرضت للتحريف باستثناء القرآن الكريم.