تدبرات في سورة المطففين وفقًا لابن كثير

تحليل وتدبر في سورة المطففين كما وردت في تفسير ابن كثير، مع استعراض لأهم القضايا اللغوية والتفسيرية التي تناولها الإمام.

فهرس المحتويات

نظرة في الجزء الأول

تتعرض الآيات من (1) إلى (6) في سورة المطففين لمسألة خطيرة وهي التلاعب في الموازين والمكاييل. وقد أوضح ابن كثير هذه المسألة بأسلوب مميز يظهر دقته في فهم النص القرآني، ويمكن تلخيص منهجه في هذا المقطع فيما يلي:

أهمية فهم عادات العرب قبل الإسلام في التفسير

يظهر ذلك جلياً في عرضه للأسباب التاريخية التي أدت إلى نزول هذه الآيات، حيث روى عن الصحابة الكرام ما يدل على ذلك، فقد جاء في تفسيره: “لمَّا قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)، فحسَّنوا الكيل بعد ذلك”. وأشار إلى كيف أن أهل المدينة تغيرت أخلاقهم بعد استجابتهم لأحكام الإسلام وتركهم عاداتهم السابقة، مستدلاً بقوله: “وما يمنعهم أن يوفوا الكيل، وقد قال الله -تعالى-: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)”.[1][2]

الاهتمام بشرح معاني القرآن لغةً

عنى ابن كثير بتوضيح معنى التطفيف لغوياً، فأشار إلى أنه يعني النقص والغش في الكيل والوزن. قال: “والمراد بالتطفيف هاهنا البخس في المكيال والميزان إما بالازدياد إن اقتضى من الناس وإما بالنقصان إن قضاهم، ولهذا بيَّن الله -تعالى- أنَّ المطففين الذين وعدوا بالخسران والهلاك والويل”.

ثم شرح الآيات التي تتحدث عن هذا الأمر، فقال: (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ)، “أي: مِن الناس يستوفون -أي يأخذون- حقهم بالوافي والزائد،(وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)، أي: يُنقصون”.[2]

العناية بتفسير القرآن بالقرآن وربط الآيات ذات الصلة

لم يكتفِ ابن كثير بتفسير الآيات بشكل منفرد، بل عمد إلى ربطها بآيات أخرى تتحدث عن نفس القضية، بهدف إعطاء صورة شاملة وواضحة للقارئ. فذكر الآيات التي تحث على الوفاء في الكيل والميزان، مثل قوله تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).[5]

وأشار أيضاً إلى قوله تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)،[6] وقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)،[7] مذكراً بأن الله أهلك قوم شعيب بسبب تلاعبهم في الموازين والمكاييل.[8]

تأملات في الجزء الثاني

تتناول الآيات من (7) إلى (28) الحديث عن مصير الفجار والأبرار. وقد اعتمد ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات على أسس تفسيرية متنوعة، من أبرزها:

الجمع بين النقل والمعقول

يتضح ذلك في تفسيره للآيات: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ* كِتَابٌ مَرْقُومٌ)،[9] حيث أوضح معنى كلمة (سِجِّينٍ) لغةً، ثم ذكر ما ورد في الأثر حول هذا الموضوع، فقال: “أي إنَّ مصيرهم ومأواهم (لَفِي سِجِّينٍ) أي لفي السجن وهو الضيق وهي على وزن فِعِّيل. يقال: فِسِّيق وشِرِّيب وخِمِّير وسِكِّير ونحو ذلك، ولهذا عظَّم أمره فقال -تعالى-: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ) أي هو أمر عظيم، يقول الله -عز وجل- في روح الكافر: (اكْتُبُوا كِتَابَه في سِجِّينٍ).[10][11]

استخدام المقابلة في التفسير

اعتمد ابن كثير على أسلوب المقابلة بين مصير الفجار والأبرار لتوضيح المعنى، ففي تفسيره للآيات: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ* كِتَابٌ مَرْقُومٌ)،[12] قال: “حقاً (إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ) وهم بخلاف الفجار (لَفِي عِلِّيِّينَ) أي مصيرهم إلى عليين، وهو بخلاف (سِجِّينٍ)”.[13] ثم أوضح معنى (عِلِّيِّينَ) لغةً وأشار إلى عظمته، فقال: “والظاهر أنَّ (عِلِّيِّينَ) مأخوذ من العلو، ولهذا قال -تعالى- مُعظِّماً أمره ومفخماً شأنه (وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ)، ثم قال -تعالى-: مؤكداً لما كتب لهم (كِتَابٌ مَرْقُومٌ)”.[13]

الترجيح بين أقوال المفسرين بالنظر إلى التقابل

عند اختلاف آراء المفسرين، كان ابن كثير يرجح الرأي الذي يتماشى مع سياق الآيات وموضوعها، فمثلاً عند تفسيره لآية: (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ)،[14] ذكر اختلاف الآراء حول ما ينظرون إليه، ثم رجح القول بأنهم ينظرون إلى الله عز وجل، مستدلاً بالمقابلة مع حال الفجار، فقال: “ينظرون إلى الله -عز وجل-.[13] وهذا مقابل لما وصف به أولئك الفجار: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)”.[15][13] وأشار إلى أن هذا القول قد ذهب إليه عدد من المفسرين، كالقرطبي الذي قال: “ينظرون إلى وجهه وجلاله”،[16] والسعدي الذي قال: “وينظرون إلى وجه ربهم الكريم”.[17]

إضاءات على الجزء الأخير

تعرض الآيات من (29) إلى نهاية السورة صورة أخرى للمقابلة بين المؤمنين والكافرين. فقد ذكر الله تعالى أن المجرمين كانوا في الدنيا يستهزئون بالمؤمنين ويحتقرونهم، وإذا عادوا إلى أهلهم تفكهوا بما لديهم من النعم.[18]

وكانوا أيضاً يحقرون المؤمنين ويتهمونهم بالضلال لمجرد اختلافهم عنهم في الدين، رغم أنهم لم يُرسلوا مراقبين عليهم.[18] ثم بين الله تعالى أن المؤمنين في يوم القيامة سيضحكون من الكفار، وسيكون لهم متعة إضافية وهي النظر إلى وجه الله الكريم.[18]

وفي مقابل ادعاء الكفار بأن المؤمنين ضالون، بين الله تعالى أن المؤمنين هم أولياؤه المقربون الذين ينعمون بالنظر إليه في دار كرامته. فهل جُوزي الكفار على استهزائهم بالمؤمنين أم لا؟ لقد جوزوا الجزاء الأوفى والأكمل.[18]

المصادر

  1. سورة المطففين، آية: 1
  2. ابن كثير الدمشقي، تفسير القرآن العظيم، صفحة 343
  3. سورة المطففين، آية: 2
  4. سورة المطففين، آية: 3
  5. سورة الإسراء، آية: 35
  6. سورة الأنعام، آية: 152
  7. سورة الرحمن، آية: 9
  8. ابن كثير الدمشقي، تفسير القرآن العظيم، صفحة 347
  9. سورة المطففين، آية: 7-9
  10. رواه الألباني، في صحيح الجامع، عن البراء بن عازب، الصفحة أو الرقم:1676، صحيح
  11. ابن كثير الدمشقي، تفسير القرآن العظيم، صفحة 349
  12. سورة المطففين، آية: 18-20
  13. ابن كثير الدمشقي، تفسير القرآن العظيم، صفحة 352
  14. سورة المطففين، آية: 23
  15. سورة المطففين، آية: 15
  16. القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، صفحة 264
  17. عبد الرحمن السعدي، تيسير الكريم الرحمن، صفحة 916
  18. ابن كثير الدمشقي، تفسير القرآن العظيم، صفحة 345. بتصرّف
Total
0
Shares
اترك تعليقاً
المقال السابق

تحليل وتدبر سورة المطففين

المقال التالي

إضاءات على سورة المطففين

مقالات مشابهة