تحليل وتوضيح الآية 102 من سورة البقرة

دراسة شاملة للآية 102 من سورة البقرة، تتناول سياقها، معناها العام، والأساطير الإسرائيلية المتعلقة بقصة هاروت وماروت.

السياق القرآني للآية الكريمة

لا يمكن فهم دلالات الآية الكريمة بشكل كامل إلا بالنظر إلى موقعها ضمن مجموعة الآيات التي تتناول سلوكيات بني إسرائيل. هذا المقطع من سورة البقرة يسرد سلسلة من الأفعال التي قام بها بنو إسرائيل والتي تعكس تمردهم على أوامر الله وتعاليم أنبيائه في مختلف المراحل الزمنية. يمكن تلخيص أبرز هذه الأفعال، كما تظهر في الآيات السابقة للآية 102، في النقاط التالية:

  • الانتقاء من الشريعة حسب الأهواء:

    كما ورد في قوله تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ)[١].

  • الاستعلاء على الأنبياء وإيذائهم:

    ويتجلى ذلك في قول الله عز وجل: (اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ)[٢].

  • الادعاء بعدم القدرة على فهم الشريعة:

    كما جاء في الآية الكريمة: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ)[٣].

  • رفض الشريعة بعد طلبها:

    وقد عبر القرآن عن ذلك بقوله: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)[٤].

  • نقض العهود والمواثيق:

    ومن أبرز هذه العهود، العهد الذي قطعوه باتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم عند ظهوره، كما قال تعالى: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ)[٥].

  • اتباع السحرة والمشعوذين:

    بدلاً من اتباع النبي الحق الذي ظهرت علامات صدقه، اتجهوا إلى السحرة وأتباع الشياطين، كما قال تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ)[٦].

التفسير العام للآية

عندما تم سبي بني إسرائيل إلى أرض بابل على يد نبوخذ نصر، انتشرت بينهم معتقدات السحر والشعوذة بشكل واسع. في ذلك الوقت، كان الأنبياء الصادقون يواجهون صعوبة كبيرة في إقناع الناس وابعادهم عن هذه الخرافات، حيث كان الكثيرون يميلون إلى تصديق السحرة والمشعوذين الذين كانوا يدعون القدرة على فعل المعجزات.

ولإزالة اللبس والتمييز بين المعجزة الحقيقية والسحر الزائف، أرسل الله سبحانه وتعالى ملكين إلى الأرض باسم هاروت وماروت.[٧]

وصل تضليل شياطين الإنس والجن إلى درجة أنهم زعموا أنهم اكتشفوا سحراً مدفوناً تحت عرش النبي سليمان عليه السلام، وأن هذا السحر هو الذي مكنه من القيام بأعمال خارقة. هذا الأمر أوقع الناس في حيرة كبيرة: هل يصدقون السحرة الذين يدعون النبوة ويقولون إن أفعالهم الخارقة هي معجزات، أم يتبعون الأنبياء الصادقين الذين يأتون بمعجزات حقيقية؟ كان من الضروري إرسال الملكين لتوضيح الفرق الجوهري بين السحر والمعجزة.[٨]

وكان الملكان لا يعلمان أحداً الفرق بين السحر والمعجزة إلا بعد أن يحذراه وينصحاه بعدم استخدام هذا العلم في الشر، ويؤكدان لهما أنهما مجرد اختبار من الله. فمن تعلم هذا العلم واستخدمه في السحر، فقد كفر، ومن تعلمه ولم يستخدمه، فإنه سيميز بين النبي الحقيقي والساحر، وبالتالي يثبت على الإيمان. لكن اليهود، كعادتهم، تعلموا ما يضرهم وهو السحر، وتركوا ما ينفعهم.[٩]

روايات بني إسرائيل حول هاروت وماروت

تتضمن بعض كتب التفسير والتاريخ بعض الروايات غير الصحيحة التي تسربت إليها من مصادر إسرائيلية. هذه الروايات تزعم أن هاروت وماروت كانا ملكين طلبا النزول إلى الأرض، ثم تعرضا لفتنة ووقعا في الفاحشة، فأنزل الله عليهما عقاباً شديداً. وتزعم هذه الروايات أيضاً أن الزهرة هي المرأة التي ارتكبا معها الفاحشة، وأن اسمها كان أناهيد. يجب على كل مسلم أن يتجنب تداول هذه الروايات أو الاعتماد عليها في التفسير، لأنها محض افتراءات لا أساس لها من الصحة.[١٠]

وقد أكد العديد من العلماء أن أي رواية تُنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا السياق فهي باطلة، بغض النظر عن عدد أسانيدها، فما بالك إذا كانت هذه الأسانيد واهية ومليئة بالضعفاء والوضاعين. وقد صرح الشهاب العراقي بأن “من اعتقد في هاروت وماروت أنهما ملكان يعذبان على خطيئتهما: فهو كافر بالله”.[١١]

المصادر والمراجع

  1. سورة البقرة، الآية: 85
  2. سورة البقرة، الآية: 87
  3. سورة البقرة، الآية: 88
  4. سورة البقرة، الآية: 89
  5. سورة البقرة، الآية: 100
  6. سورة البقرة، الآية: 102
  7. القاسمي، محاسن التأويل، صفحة 364. بتصرّف.
  8. محمد رشيد رضا، تفسير المنار، صفحة 330. بتصرّف.
  9. المراغي، تفسير المراغي، صفحة 181. بتصرّف.
  10. جلال الدين السيوطي، اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، صفحة 144. بتصرّف.
  11. محمد أبو شهبة، الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، صفحة 162.
Total
0
Shares
اترك تعليقاً
المقال السابق

دلالات أكل اللحوم في الأحلام: تفسيرات شاملة

المقال التالي

تأويلات متنوعة لرؤية الأرز المطبوخ في الحلم

مقالات مشابهة

القلب الطاهر في فكر ابن القيم

استكشاف مفهوم القلب السليم كما ورد في كتابات ابن القيم. يتناول المقال صفات القلب السليم وكيفية تحقيقه من خلال الرضا بقضاء الله والانقياد لشرعه، بالإضافة إلى أهمية سلامة الجوارح ودورها في إظهار سلامة القلب.
إقرأ المزيد