تحليل وتأملات في قوله تعالى: “فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام”

تحليل وتوضيح لآية ‘فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام’ من خلال تفسيرات مختلفة. استكشاف لمعاني الهداية وشرح الصدر في ضوء أقوال المفسرين الكرام.

مقدمة

تعتبر آيات القرآن الكريم نبراساً يضيء لنا دروب الحياة، ويحمل في طياته معاني عميقة تحتاج إلى تدبر وتأمل. ومن بين هذه الآيات العظيمة، قوله تعالى: (فَمَن يُرِدِ اللَّـهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَح صَدرَهُ لِلإِسلامِ) (سورة الأنعام، آية: 125). هذه الآية الكريمة تتناول قضية الهداية وشرح الصدر للإسلام، وهي من القضايا الجوهرية التي تشغل بال المسلم، حيث يسعى دائماً إلى فهم كيف يهدي الله عباده، وما هي العلامات التي تدل على هذه الهداية. في هذا المقال، سنتناول تفسير هذه الآية من خلال أقوال بعض المفسرين الكرام، لنستجلي معانيها ونستنير بهديها.

تأويل الآية عند الإمام القرطبي

يُعنى الإمام القرطبي بتوضيح معنى “يشرح صدره” في الآية الكريمة. يرى أن الشرح هو التوسعة والتوفيق، وأن الله تعالى يزين ثواب الإسلام عند المؤمن، فيقبله ويسعى إليه. ويذكر أن أصل كلمة “شرح” هو التوسيع والبيان، فشرح الله صدره يعني وسعه بالبيان والهداية. ويضيف أن الله تعالى، كما يهدي من يشاء، فإنه يضل من يشاء، فيجعل صدره ضيقاً حرجاً.

ويستشهد الإمام القرطبي بحديث نبوي شريف يوضح هذا المعنى، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-:(مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ). ويرى أن التفقه في الدين لا يكون إلا بشرح الصدر وتنويره، وأن من لم يرد الله به خيراً ضيق صدره، وأبعد فهمه عن الدين. وهذا الحديث يؤكد أن الهداية والتوفيق من الله، وأنها تتجلى في شرح الصدر وتيسير الفهم.

ويضيف القرطبي أن هذا الحديث يدلّ بمنطوقه على أن من أراد الله به الخير، وفقهه في الدين. وبمفهوم المخالفة يدل على أن من لم يرد الله به الخير، ضيق صدره، وأبعد فهمه فلم يفقهه.

رؤية الإمام الطبري في معنى الآية

يتناول الإمام الطبري تفسير الآية الكريمة، ويرى أن من أراد الله هدايته إلى الإيمان به وبرسوله، يشرح صدره للإسلام بكلمة التوحيد “لا إله إلا الله”. فيتسع صدره لذلك، ويسهل عليه الإيمان، بلطف الله وكرمه ومعونته، حتى يثبت الإسلام في قلبه وينير له. وبذلك يصبح القلب مستعداً لتقبل الحق والعمل به.

ويوضح الطبري أنه عندما يمنح الله الإنسان سعة في صدره للإسلام، يصبح همه الأساسي هو السعي إلى دار الخلود، من خلال فعل الطاعات والابتعاد عن المحرمات. فيزهد في الدنيا الفانية، ويكون على استعداد دائم للموت ولقاء الله تعالى. وكما أن الله يهدي من يشاء للإسلام، فإنه أيضاً يضل من يشاء عن سبيل الهدى، فيجعل صدره ضيقاً، ويصبح الإسلام عليه ثقيلاً، فلا تؤثر فيه المواعظ، ولا يدخله نور الإيمان.

ويرى الطبري أن شرح الصدر هو مفتاح السعادة في الدنيا والآخرة، وأن من حرم هذا الشرح فقد حرم الخير كله. وأن الضيق والحرج هما علامة البعد عن الله، وأن من اتصف بهما فقد خسر الدنيا والآخرة.

نظرة الإمام السعدي لتفسير الآية

يشير الإمام السعدي إلى أن الله تعالى يبين لعباده علامة سعادة العبد وهدايته وفلاحه، فيقول تعالى أن من انشرح صدره للإسلام، أي اتسع وانفسح، فاستنار بنور الإيمان، وحييَ بضوء اليقين، واطمأنت بذلك نفسه، وأحب الخير، وطوعت له نفسه فعله، متلذذاً به غير مستثقل، فإن هذا علامة على أن الله قد هداه، ومنَّ عليه بالتوفيق، وسلوك أقوم الطريق.

ويضيف السعدي أن علامة من يرد الله أن يضله هي أن يجعل صدره ضيقاً حرجاً، أي في غاية الضيق عن الإيمان والعلم واليقين، فقلبه قد انغمس في الشبهات والشهوات، فلا يصل إليه خير، ولا ينشرح قلبه لفعل الخير، كأنه من ضيقه وشدته يكاد يصعد في السماء. وهذا سببه عدم إيمانهم، وهو الذي أوجب أن يجعل الله الرجس عليهم، لأنهم سدوا على أنفسهم باب الرحمة والإحسان. وهذا ميزان وطريق لا يتغير، فإن من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، يسره الله لليسرى، ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى، يسره للعسرى.

ويوضح السعدي أن شرح الصدر هو نعمة عظيمة من الله، وأن من أنعم الله عليه بهذه النعمة فقد فاز فوزاً عظيماً. وأن الضيق والحرج هما عقاب من الله، وأن من عوقب بهما فقد خسر خسارة عظيمة.

خلاصة واستنتاجات

من خلال استعراض أقوال المفسرين الكرام، ندرك أن شرح الصدر للإسلام هو علامة الهداية والتوفيق من الله تعالى. وهو يتجلى في اتساع القلب للإيمان، وحب الخير، والعمل الصالح. وعلى العكس من ذلك، فإن ضيق الصدر والحرج هما علامة الضلال والبعد عن الله. ونسأل الله تعالى أن يشرح صدورنا للإسلام، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.

ويمكننا القول أن هذه الآية الكريمة تحمل في طياتها دعوة إلى التفكر والتدبر في أحوالنا، ومراجعة مسارنا، والسعي إلى تحقيق شرح الصدر للإسلام، من خلال الإقبال على الله، والتوبة إليه، والعمل الصالح، والبعد عن المعاصي والآثام. فبذلك نكون قد سلكنا طريق الهداية، وفزنا برضا الله وجنته.

المصادر والمراجع

  • القرآن الكريم
  • محمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن
  • محمد الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن
  • عبد الرحمن السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان
  • صحيح مسلم
Total
0
Shares
اترك تعليقاً
المقال السابق

تحليل وتفسير الآية الكريمة: (فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر)

المقال التالي

تأويل قوله تعالى: (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)

مقالات مشابهة