تحليل قصيدة أيا من يدعي الفهم

نظرة معمقة في قصيدة أيا من يدعي الفهم للحريري، تحليل معانيها وأهدافها، وتأثيرها في الأدب العربي.

مقدمة عن فن المقامة

المقامة هي أحد الفنون الأدبية العربية التي ازدهرت في العصر العباسي، وتعتبر نوعًا من القصص القصيرة التي تعتمد على اللغة البليغة والأسلوب الأدبي الرفيع. تتميز المقامة بالصنعة اللفظية واستخدام المحسنات البديعية كالسجع والجناس. وقد ابتكر هذا الفن بديع الزمان الهمذاني، وتبعه الحريري الذي يعتبر من أشهر من كتبوا المقامات. المقامة ليست مجرد قصة، بل هي استعراض لقدرات المؤلف اللغوية والأدبية.

لمحة عن قصيدة أيا من يدعي الفهم

قصيدة “أيا من يدعي الفهم” هي إحدى المقامات الشهيرة للحريري، وهو محمد الحريري البصري. تتألف المقامة من خمسين مقامة على نمط مقامات بديع الزمان الهمذاني. تهدف هذه القصيدة إلى تقديم النصح والإرشاد بأسلوب أدبي جذاب. وقد لاقت القصيدة انتشارًا واسعًا بعد أن قام الشيخ مشاري العفاسي بإنشادها.

خصائص أسلوب الشاعر

يتميز أسلوب الحريري في مقاماته بالجزالة اللغوية والبلاغة. يعتمد على السجع والجناس والمحسنات البديعية الأخرى لإضفاء جمالية على النص. كما يتميز بالقدرة على تصوير المواقف والأحداث بأسلوب شيق ومثير للاهتمام. إضافة إلى ذلك، يتضمن أسلوبه الكثير من الحكم والأمثال التي تهدف إلى تقديم العبرة والنصيحة للقارئ.

قراءة في معاني القصيدة

تتضمن القصيدة أبياتًا تحمل معاني عميقة وتحذر من الغفلة والغرور، وتدعو إلى التفكر في الموت والحياة الآخرة. لنستعرض بعض الأبيات مع شرح مبسط لمعانيها:

أيا مَن يدّعي الفَـهْـمْ … إلى كمْ يا أخا الوَهْـمْ
تُعبّي الـذّنْـبَ والـذمّ … وتُخْطي الخَطأ الجَـمّ

هنا، يبدأ الشاعر بالنداء على من يدعي الفهم، وينبهه إلى أنه يرتكب الأخطاء ويجمع الذنوب.

أمَا بانَ لـكَ الـعـيْبْ … أمَا أنْـذرَكَ الـشّـيبْ
وما في نُصحِـهِ ريْبْ … ولا سمْعُكَ قـد صـمّ

يتساءل الشاعر عما إذا كان قد ظهر له عيبه، وهل أنذره الشيب بقرب الأجل، مؤكدًا أن نصح الشيب لا ريب فيه.

أمَا نادَى بكَ الـمـوتْ … أمَا أسْمَعَك الصّـوْتْ
أما تخشَى من الفَـوْتْ … فتَحْـتـاطَ وتـهـتـمْ

يستمر الشاعر في التذكير بالموت، ويدعو إلى الخوف من الفوات والاستعداد له.

فكمْ تسدَرُ في السهْـوْ … وتختالُ من الـزهْـوْ
وتنْصَبُّ إلى الـلّـهـوْ … كأنّ الموتَ مـا عَـمّ

ينتقد الشاعر الغفلة والانغماس في اللهو، وكأن الموت لن يطال الجميع.

وحَـتّـام تَـجـافـيكْ … وإبْـطـاءُ تـلافـيكْ
طِباعاً جمْعـتْ فـيكْ … عُيوباً شمْلُها انْـضَـمّ

يسأل الشاعر إلى متى يستمر التجافي والتأخير في إصلاح الذات، وكأن العيوب قد اجتمعت فيه.

إذا أسخَطْـتَ مـوْلاكْ … فَما تقْلَـقُ مـنْ ذاكْ
وإنْ أخفَقَ مسـعـاكْ … تلظّيتَ مـنَ الـهـمّ

يستغرب الشاعر من عدم القلق عند إغضاب الله، بينما يشتد الهم عند الإخفاق في المسعى.

وإنْ لاحَ لكَ النّـقـشْ … منَ الأصفَرِ تهـتَـشّ
وإن مرّ بك النّـعـشْ … تغامَـمْـتَ ولا غـمّ

ينتقد الشاعر الفرح بالمال والذهب، والتغافل عن الموت عند مرور النعش.

تُعاصي النّاصِحَ البَـرّ … وتعْـتـاصُ وتَـزْوَرّ
وتنْقـادُ لـمَـنْ غَـرّ … ومنْ مانَ ومـنْ نَـمّ

يستنكر الشاعر معصية الناصح الأمين، والانقياد لمن يغر وينم.

وتسعى في هَوى النّفسْ … وتحْتالُ على الفَـلْـسْ
وتنسَى ظُلمةَ الرّمـسْ … ولا تَـذكُـرُ مـا ثَـمّ

يذكر الشاعر بالسعي في هوى النفس والاحتيال على المال، ونسيان ظلمة القبر وما فيه.

ولوْ لاحظَـكَ الـحـظّ … لما طاحَ بكَ اللّـحْـظْ
ولا كُنتَ إذا الـوَعـظْ … جَلا الأحزانَ تغْـتَـمّ

يشير الشاعر إلى أن الحظ لو كان حليفك لما سقطت، ولما كنت تغتم إذا جلا الوعظ الأحزان.

ستُذْري الدّمَ لا الدّمْـعْ … إذا عايَنْتَ لا جـمْـعْ
يَقي في عَرصَةِ الجمعْ … ولا خـالَ ولا عــمّ

يصف الشاعر حال المرء يوم القيامة، عندما يذرف الدم لا الدمع، ولا ينفعه خال ولا عم.

كأني بـكَ تـنـحـطّ … إلى اللحْدِ وتـنْـغـطّ
وقد أسلمَك الـرّهـطْ … إلى أضيَقَ مـنْ سـمّ

يصور الشاعر حال المرء وهو ينزل إلى اللحد، وقد أسلمه أهله إلى مكان أضيق من سم الخياط.

هُناك الجسمُ مـمـدودْ … ليستـأكِـلَـهُ الـدّودْ
إلى أن ينخَرَ الـعـودْ … ويُمسي العظمُ قـد رمّ

يصف الشاعر حال الجسد في القبر، حيث يأكله الدود حتى يبلى العظم.

ومنْ بـعْـدُ فـلا بُـدّ … منَ العرْضِ إذا اعتُـدّ
صِراطٌ جَـسْـرُهُ مُـدّ … على النارِ لـمَـنْ أمّ

يشير إلى حتمية العرض على الله يوم القيامة، وأن الصراط ممدود على النار لمن أمه.

فكمْ من مُرشـدٍ ضـلّ … ومـنْ ذي عِـزةٍ ذَلّ
وكم مـن عـالِـمٍ زلّ … وقال الخطْبُ قد طـمّ

يذكر بأن كثيرًا من المرشدين ضلوا، ومن ذي العزة ذل، ومن العالم زل، وقال الخطب قد طم.

فبادِرْ أيّها الـغُـمْـرْ … لِما يحْلو بـهِ الـمُـرّ
فقد كادَ يهي العُـمـرْ … وما أقلعْـتَ عـن ذمّ

يدعو إلى المبادرة إلى العمل الصالح قبل فوات الأوان.

ولا ترْكَنْ إلى الدهـرْ … وإنْ لانَ وإن ســرّ
فتُلْفى كمـنْ اغـتَـرّ … بأفعى تنفُـثُ الـسـمّ

يحذر من الركون إلى الدنيا، فهي كالأفعى التي تنفث السم.

وخفّضْ منْ تـراقـيكْ … فإنّ المـوتَ لاقِـيكْ
وسارٍ فـي تـراقـيكْ … وما ينـكُـلُ إنْ هـمّ

يذكر بأن الموت لاقٍ بالجميع ولا يتأخر.

وجانِبْ صعَرَ الـخـدّ … إذا ساعـدَكَ الـجـدّ
وزُمّ اللـفْـظَ إنْ نـدّ … فَما أسـعَـدَ مَـنْ زمّ

يدعو إلى التواضع وعدم التكبر، وكتم اللفظ إن ند.

ونفِّسْ عن أخي البـثّ … وصـدّقْـهُ إذا نــثّ
ورُمّ العـمَـلَ الـرثّ … فقد أفـلـحَ مَـنْ رمّ

يدعو إلى التنفيس عن المهموم وتصديقه، وإصلاح العمل الضعيف.

ورِشْ مَن ريشُهُ انحصّ … بما عمّ ومـا خـصّ
ولا تأسَ على النّقـصْ … ولا تحرِصْ على اللَّمّ

يدعو إلى مساعدة المحتاج وعدم الحزن على النقص وعدم الحرص على الجمع.

وعادِ الخُلُـقَ الـرّذْلْ … وعوّدْ كفّـكَ الـبـذْلْ
ولا تستمِـعِ الـعـذلْ … ونزّهْها عنِ الـضـمّ

يدعو إلى معاداة الخلق الرذيل وتعويد الكف على البذل وعدم الاستماع إلى العذل وتنزيه النفس.

وزوّدْ نفسَكَ الـخـيرْ … ودعْ ما يُعقِبُ الضّـيرْ
وهيّئ مركبَ الـسّـيرْ … وخَفْ منْ لُـجّةِ الـيمّ

يحث على التزود بالخير وترك ما يعقب الضر وتهيئة مركب السير والخوف من لجة اليم.

بِذا أُوصـيتُ يا صـاحْ … وقد بُحتُ كمَـن بـاحْ
فطوبى لـفـتًـى راحْ … بآدابـــيَ يأتَـــمّ

يختم بنصحه ويحث على الاقتداء بآدابه.

وقد قال الحريري في ذات المقامة أيضا محدثاً شيخه :

إلى كمْ يا أبا زيدْ … أفانينُكَ في الكيدْ
ليَنحاشَ لكَ الصيدْ … ولا تعْبا بمَنْ ذمّ

فأجابَ من غيرِ استِحْياء. ولا ارْتِياء. وقال:

تبصّـرْ ودعِ الـلـوْمْ … وقُلْ لي هل تَرى اليومْ
فتًى لا يقمُـرُ الـقـومْ … متى ما دَسـتُـهُ تـمّ

ملخص القول

تعتبر قصيدة “أيا من يدعي الفهم” للحريري تحفة أدبية تجمع بين البلاغة والنصح والإرشاد. إنها دعوة للتفكر في الحياة والموت، والاستعداد للآخرة، وتجنب الغفلة والغرور. القصيدة تعكس قدرة الحريري على استخدام اللغة العربية ببراعة لتقديم رسالة قيمة وهادفة.

Total
0
Shares
المقال السابق

عائشة رضي الله عنها: جوانب من حياتها الزوجية وخدمتها للنبي

المقال التالي

ايات ودعاء لفك عقد الزواج – طريقك نحو السكينة

مقالات مشابهة

أجمل الروايات القصيرة: رحلة في عالم الأدب

اكتشف مجموعة مختارة من أجمل الروايات القصيرة العربية والعالمية التي ستأخذك في رحلات أدبية مثيرة. من فلسفة مصطفى محمود إلى عمق معاناة الفلسطينيين مع غسان الكنفاني، ستجد هنا قصصًا ساحرة تجذبك وتجعلك تعيش تجربة أدبية لا مثيل لها.
إقرأ المزيد