تحليل فني لقصيدة المساء لخليل مطران

تحليل فني لقصيدة المساء لخليل مطران: دراسة في المعاني، المفردات، الصور الفنية، الوصف المبتكر، الإيقاع الشعري، والعواطف.

مقدمة في قصيدة المساء

تُعتبر قصيدة المساء من روائع الشعر الوجداني التي أبدعها الشاعر الكبير خليل مطران. تمتاز هذه القصيدة بتنوع الأساليب الفنية التي استخدمها الشاعر، والتي تعكس حالته النفسية في تلك الفترة، والتي تميزت بالشعور بالمرض، والوحدة، وفقدان المحبوبة. وقد انعكس ذلك كله في أبيات القصيدة.

الأفكار الأساسية والمضامين

لفهم القصيدة بشكل أعمق، يجب أن ندرك الظروف التي أحاطت بنشأتها. فقد كُتبت القصيدة بناءً على نصيحة الطبيب لمطران بالسفر وتغيير الأجواء، واختار الإقامة في مدينة الإسكندرية الساحلية. وقد استلهم الشاعر من جمال الطبيعة المحيطة به ليكتب أبياتًا تعبر عن مشاعره في هذا المكان الخلاب.

لقد أحدث مطران تجديدًا في قصيدة المساء من حيث المحتوى، حيث قام بدمج أحاسيسه الذاتية مع مظاهر الطبيعة التي رآها في المصيف. على سبيل المثال، تأثر الشاعر باللون الأحمر الذي يظهر عند غروب الشمس، واعتبره تعبيرًا عن حزنه وحالته النفسية المضطربة. كما قام بإضفاء الطابع الإنساني على الطبيعة، فجعلها تتحدث وتتحاور معه، ويشكو لها همومه وأحزانه، فتتأثر الطبيعة بآلامه وتتغير ألوانها حزنًا عليه. ومما قاله وهو واقف على شاطئ البحر:

شَاكٍ إِلَى البَحْرِ اضْطِرَابَ خَوَاطِرِي
فَيُجِيبُني برِيَاحِهِ الهَوْجَاءِ
ثَاوٍ عَلَى صَخْرٍ أَصَمََّ، وَلَيْتَ لي
قَلْبَاً كَهَذِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ

إن الأفكار التي تناولها خليل مطران في قصيدة المساء تعكس حالته النفسية وتجديده في الشعر العربي. فتارة يتحدث عن أحواله التي يسودها القلق والحزن والكآبة، مثل حديثه عن الغروب الذي يراه نهاية الوجود وفناء للكون:

يَا لَلْغُرُوبِ وَمَا بهِ مِنْ عِبْرَةٍ
لِلْمُسْتَهَامِ وَعِبْرَةٍ لِلرَّائي
أَوَلَيْسَ نَزْعَاً لِلنَّهَارِ وَصَرْعَةً
لِلشَّمْسِ بَيْنَ مَآتِمِ الأَضْوَاءِ؟
أَوَلَيْسَ طَمْسَاً لِلْيَقِينِ وَمَبْعَثَاً
لِلشَّكِّ بَيْنَ غَلائِلِ الظّلْمَاءِ؟
أَوَلَيْسَ مَحْوَاً لِلوُجُودِ إلَى مَدَىً
وَإِبَادَةً لِمَعَالِمِ الأَشْيَاءِ؟

وفي موضع آخر، يصف كيف تنهمر الدموع من عينيه مع انعكاس ضوء الغروب على الكون:

وَالدَّمْعُ مِنْ جَفْني يَسِيلُ مُشَعْشَعَاً
بسَنَى الشُّعَاعِ الغَارِبِ المُتَرَائي

وفي مقطع آخر من القصيدة، يشعر بقرب نهاية عمره، فيقول:

وَكَأَنَّني آنَسْتُ يَوْمِي زَائِلاً
فَرَأَيْتُ في المِرْآةِ كَيْفَ مَسَائي

كما تطرق مطران إلى فكرة المرأة المحبوبة، التي كانت سبب آلامه التي لا تنتهي، والتي تسكن قلبه، والتي غيابها لم يترك له سوى الحزن. فقد أخذت معه كل شيء عندما انتهت قصته معها بالموت بعد صراع مع المرض، فكان جزاؤه أن يحكم على نفسه بالوفاء وأن يحرم نفسه من الاستمتاع بحياته وعمله وأدبه العظيم.

ومن كلماته في هذا الشأن:

هذَا الَّذي أَبقَيتِهِ يا مُنيَتِي
منْ أَضلُعِي وحَشاشتِي وذكَائِيعُمرَينِ فيكِ أَضَعتُ لَو أَنْصَفتنِي
لمْ يَجدرَا بِتَأسُّفي وبُكائِيعُمرَ الفَتَى الفَانِي وعُمرَ مُخلَّدٍ
ببيانِهِ لَولاكِ في الأَحيَاءِفغَدوتَ لَم أَنعَمْ كذِي جَهلٍ وَلم
أغنَمْ كذِي عَقلٍ ضمَانَ بقاءِ

المفردات والتراكيب اللغوية

تميزت لغة خليل مطران بالفصاحة، فهو من الشعراء الذين يتبعون نهج الشعر العربي القديم. كما أنه اختار كلماته بعناية فائقة، وكانت ألفاظه متناسبة مع الأفكار التي تناولها، مثل الألم، والشكوى، والشوق. لم تكن هناك تعقيدات أو صعوبات في اللغة، ونادرًا ما يحتاج القارئ إلى الرجوع إلى المعاجم للبحث عن معاني الكلمات، وذلك لبساطة اللغة وسهولتها. وقد غلب على اللغة طابع الحزن والاضطراب بسبب معاناته وآلامه.

الصور البلاغية في القصيدة

استخدم خليل مطران العديد من الصور الشعرية في قصيدته، وجدد في هذا المجال من خلال استخدامه للطبيعة للتعبير عن حالته النفسية، مستعينًا بالخيال. وقد ظهر في أبيات القصيدة ما يسمى بالحلول الشعري.

فقد بث خليل مطران الحياة في الطبيعة بمساعدة الخيال، وألبسها ثوبًا بشريًا، وجعلها قادرة على التحدث إليه، وهذا واضح في معظم القصيدة، كما في حديثه مع البحر الذي شكا إليه همومه.

كما استخدم خليل مطران العديد من الصور البيانية الحية، فتارة يأتي بالتشبيه، وتارة أخرى يأتي بالاستعارة، وتارة نرى الكناية بوضوح، مما أضفى على القصيدة جمالًا وإبداعًا.

ومن ذلك قوله:

داءٌ ألَمَّ فَخِلْتُ فِيهِ شَفَائِي
مِنْ صَبْوَتِي فَتَضَاعَفَتْ بُرَحَائِي

فهنا يشبه مطران الداء وكأنه إنسان يزور ويلم، وحذف المشبه به وهو الإنسان ولكنه ترك الألم كلازمة من لوازم الألم فيفهم السامع المراد، ونلاحظ في ذات الفكرة أن نهاره يودع بعد اللقا وكأنه مسافر أو مهاجر، وخواطره مجروحة كما السحاب مجروح أيضًا، فالألم يطغى على كل ما حوله.

ومن الأمثلة الأخرى قوله:

وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالنَّهَارُ مُوَدِّعٌ
وَالْقَلْبُ بَيْنَ مَهَابَةٍ وَرَجَاءِ
وَخَوَاطِرِي تَبْدُو تُجَاهَ نَوَاظِرِي
كَلْمَى كَدَامِيَةِ السَّحَابِ إزَائِي

الوصف الفني والجمالي

أبدع مطران في وصف مظاهر الطبيعة كما أبدع في استخدام اللغة. إنه يرسم الطبيعة بريشة من كلمات ويضفي على حسنها أحاسيسه ومشاعره لتكتمل لوحته الشعرية، فنراه حينًا يصف سفر الشمس إلى مغربها بدقة متناهية، فهي تخرج من بين الغمام كدمع ملطخ باللون الأحمر وكأنها تبكي دمًا لأن النهار سافر معها والظلمة والليل آت، وهي تبكي حاله أيضا فقد أصبحت الشمس شاهدًا على حزنه وألمه.

ومن ذلك قوله:

الشَّمْسُ في شَفَقٍ يَسِيلُ نُضَارُهُ
فَوْقَ العَقِيقِ عَلَى ذُرَىً سَوْدَاءِ
مَرَّتْ خِلاَلَ غَمَامَتَيْنِ تَحَدُّرَاً
وَتَقَطَّرَتْ كَالدَّمْعَةِ الحَمْرَاءِ
فَكَأَنَّ آخِرُ دَمْعَةٍ لِلْكَوْنِ قَدْ
مُزِجَتْ بآخِرِ أَدْمُعِي لرِثَائي

وفي صورة أخرى يصف لنا مدى يأسه وحزنه في رحلته إلى المصيف حيث نصحه الطبيب لكي يشفى من مرضه فزاد مرضًا، فيتمنى لو أن قلبه كالصخر لا يشعر، فهو تعيس لدرجة أنه يتمنى أن يكون صخرة على شاطئ البحر تتناوشها الأمواج، والبحر ضيق كصدره الذي يضيق كلما جاء المساء فهو وحيد مريض، بلا حبيب أو صديق.

وفي هذا يقول:

ثَاوٍ عَلَى صَخْرٍ أَصَمََّ، وَلَيْتَ لي
قَلْبَاً كَهَذِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ!
يَنْتَابُهَا مَوْجٌ كَمَوْجِ مَكَارِهِ
وَيَفتُّهَا كَالسُّقْمِ في أَعْضَائِي
وَالبَحْرُ خَفَّاقُ الجَوَانِبِ ضَائِقٌ
كَمَدَاً كَصَدْرِي سَاعَةَ الإمْسَاءِ

الإيقاع والموسيقى الشعرية

اتفق خليل مطران مع شكل القصيدة من حيث كونها تعتمد وحدة التفعيلة وحرف الروي. أما موسيقى الشعر فخضعت لحالته النفسية الحزينة فاعتمد البحر الكامل، وهو من الأوزان الشعرية طويلة النفس والتي تتناسب مع مرضه وحالته النفسية.

الأحاسيس والمشاعر

سيطرت على القصيدة عاطفة واحدة وهي عاطفة الحزن، والألم، كما سيطرت نظرة اليأس والمرض. وهي عواطف قوية وكأن الجو النفسي الحزين في القصيدة هو المسيطر على كل شيء من حولها.

التكامل الفني

تميزت القصيدة بالوحدة فهي تتحدث بكاملها عن قصة واحدة، وجميع الأفكار والمعاني فيها مترابطة كالجسد الواحد، وغياب عنصر منها يترتب عليه اختلال في المعنى كله.

Total
0
Shares
اترك تعليقاً
المقال السابق

تحليلات حول المرأة: رؤى متنوعة

المقال التالي

استكشاف دراسة إدارة الأعمال في الجزائر

مقالات مشابهة