مقدمة
إن الله سبحانه وتعالى قد أنزل القرآن الكريم هدىً ونوراً للبشرية، وبين فيه صفات عباده المتقين، الذين يسعون لنيل رضاه والفوز بجنته. ومن الآيات التي تصف هؤلاء العباد، قوله تعالى: (كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ).
معنى الآية (كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)
يا له من فضل عظيم أن يخص الله سبحانه وتعالى قوماً بهذه المنزلة! هذه الآية تصف حال المؤمنين الذين جعلوا الليل محراباً لعبادتهم، يبتغون فيه وجه الله. إنها تضيء دروب السالكين إلى الله، وتوقظ القلوب الغافلة. إنهم القوم الذين استبدلوا لذة النوم بنور المناجاة. قال تعالى: (كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ).
صفة نوم الصالحين
كلمة “يهجعون” تشير إلى النوم الخفيف أو الغفوة اليسيرة. فالصالحون يقتصدون في نومهم، ويستغلون معظم الليل في العبادة والذكر. هم يدركون أن الحياة الحقيقية هي في القرب من الله، وفي مناجاته في ظلمات الليل. إنهم يفضلون القيام بين يدي الله على الراحة، ويتلذذون بالوقوف بين يديه. إنهم يسعون للوصول إلى درجة عالية من الصفاء الروحي.
إنهم يطلبون لذة القرب من الله والتي تعلو على كل ملذات الدنيا الفانية.
خصال المتقين
المتقون هم الذين اخلصوا دينهم لله، فهم العابدون الصادقون الذين يجاهدون أهواءهم وشهواتهم من أجل نيل رضا الله وجنته. لقد وصفهم الله عز وجل بصفات عظيمة، فهم كانوا محسنين قبل نزول الفرائض، وقليلًا من الليل ما ينامون، وفي وقت الأسحار يستغفرون، وفي أموالهم نصيب معلوم للسائل والمحروم. إنهم يجمعون بين عبادة الليل والإنفاق في سبيل الله.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ في الجنَّةِ لغُرفةً قد يُرى ظاهرُها من باطنِها، وباطنُها من ظاهرِها، أعدَّها اللهُ لمن أطعمَ الطَّعامَ، وألينَ الكلامَ، وتابعَ الصِّيامَ، وصلَّى باللَّيلِ والنَّاسُ نيامٌ).
إنهم يكابدون مشقة الليل ويستمرون بالعبادة والاستغفار حتى وقت السحر.
قيام الليل: سبيل المخلصين
قيام الليل هو سر السعادة، وهو مدرسة الإخلاص، وميدان السباق للمتقين. له تأثير عجيب على القلب، فهو يطهره من الأدران والأكدار، وينقيه من آثار الحقد والضغينة. إنه يمنح القلب صفاءً ونورًا.
يكمن السر في قيام الليل في أن العبد يزهد في ملذات الدنيا من نوم وراحة، ويتوجه بقلبه وجوارحه إلى الله، طمعًا في رضاه. فمن آثر القيام على النوم، كساه الله لباس التقوى، وملأ قلبه سكينة، فيواجه صعوبات الدنيا بصدر رحب.
لقد أرشدنا الله إلى هذه العبادة العظيمة لما فيها من أجر جزيل، ولما لها من أثر في تحقيق الفرج وتثبيت القلب على حب الله. فمن داوم على قيام الليل، زاد إقباله على الطاعات، وكره المعاصي، وأصبح بينه وبينها حجاب. أما أهل المعاصي، فإن معاصيهم تثقل عليهم التهجد، إلا من تاب وأناب إلى الله.
روى عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَزْدِ أَنَّهُ قَالَ: “كُنْتُ لَا أَنَامُ اللَّيْلَ فَنِمْتُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، فَإِذَا أَنَا بِشَابَّيْنِ أَحْسَنَ مَا رَأَيْتُ وَمَعَهُمَا حُلَلٌ، فَوَقَفَا عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ وَكَسَوَاهُ حُلَّةً، ثُمَّ انْتَهَيَا إِلَى النِّيَامِ فَلَمْ يَكْسُوَاهُمْ، فَقُلْتُ لَهُمَا: اكْسُوَانِي مِنْ حللكما هذا، فَقَالَا لِي: إِنَّهَا لَيْسَتْ حُلَّةَ لِبَاسٍ إِنَّمَا هِيَ رِضْوَانُ اللَهِ يَحُلُّ عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ”.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:(يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ فيَقولُ: مَن يَدْعُونِي فأسْتَجِيبَ له، مَن يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَن يَسْتَغْفِرُنِي فأغْفِرَ له).
خاتمة
نسأل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يرزقنا قيام الليل إخلاصًا له، وأن يتقبل منا صالح الأعمال.