تأملات في خشية عبد الرحمن بن عوف

تأملات في خشية عبد الرحمن بن عوف وسماته البارزة. نظرة على ورعه وإنفاقه وجوده. مصادر حول خوف عبد الرحمن بن عوف من الله.

كان عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، من الصحابة الكرام الذين تركوا بصمة واضحة في تاريخ الإسلام. اشتهر بتقواه وورعه، وبالرغم من ثرائه الفاحش، إلا أن ذلك لم يزده إلا تواضعًا وخشية لله تعالى. سنتناول في هذا المقال جوانب من شخصيته العظيمة، مركزين على خوفه من الله، وزهده في الدنيا، وكرمه وعطائه.

الرهبة الإلهية في قلب عبد الرحمن بن عوف

كان عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- يتمتع بمنزلة عظيمة عند الله، إلا أن ذلك لم يجعله يأمن مكر الله، بل كان دائم الخوف والوجل. كان يخشى أن يكون ما ينعم به من مال ورزق إنما هو تعجيل لثوابه في الدنيا، ويؤمن بأن المسلم الغني الذي يشكر الله على نعمته وينفق ماله في الخير، ينال أجراً عظيماً. فالمال هو هبة من الله، وشكر هذه النعمة يكون بإنفاقه في طاعة الله ومرضاته.

لم يكن ابن عوف غافلاً عن حقيقة الدنيا الفانية، بل كان دائم التفكير في الآخرة والاستعداد لها. يُروى أنه في أحد الأيام، بينما كان صائماً، تذكر الصحابة الذين سبقوه إلى الدار الآخرة، فقال: “قُتل مصعب بن عمير -رضي الله عنه- وكُفّن بغطاء قصير، وقُتل حمزة بن عبد المطاب -رضي الله عنه- وكانا خيرًا منّي، فأخشى أن تكون حسناتي عُجّلت لي في الدنيا”، ثم بكى وترك طعامه.

وتذكر أيضاً: “فأُسيد -رضي الله عنه- مات في حضرة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي تنزَّلت الملائكة من السماوات لتلاوته للقرآن، وسعد بن معاذ -رضي الله عنه- هو الذي اهتزَّ لموته عرش الرحمن”، معبراً عن شوقه لتلك المنزلة الرفيعة التي نالوها.

وذات مرة، بينما كان يستقبل زواره، قدم لهم خبزاً ولحماً، فبكى وقال: كان رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- يبيت هو وأهل بيته من غير طعام.

خصائص عبد الرحمن بن عوف

تميز عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- بصفات عظيمة جعلت منه قدوة حسنة للمسلمين. كان زاهداً في الدنيا، كريماً في العطاء، متواضعاً في تعامله مع الناس، وعالماً بأمور الدين.

الورع والبعد عن الدنيا

أدرك عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- حقيقة الدنيا الزائلة من خلال فهمه العميق للقرآن الكريم، وملازمته للرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-. فالدنيا عنده دار فناء لا دار بقاء. وقد تجسد هذا المفهوم في حياته، فزهد في طلب الدنيا وحبها، واقتدى بقول الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-: (كُنْ في الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ وكانَ ابنُ عُمَرَ، يقولُ: إذَا أمْسَيْتَ فلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وإذَا أصْبَحْتَ فلا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وخُذْ مِن صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، ومِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ).

وكان يستحضر دائماً قول الله -تعالى-: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ* مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ).

الأمثلة على ورع الصحابة -رضوان الله عليهم- كثيرة، وقد تركت أثراً بالغاً في قلب عبد الرحمن بن عوف.

الجود والعطاء في سبيل الله

كان عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- مباركاً في رزقه وتجارته، ولكن غناه كان في يده لا في قلبه. كان سخياً في الإنفاق في سبيل الله -تعالى-. كلما ذكر الكرم والجود، ذكر اسم عبد الرحمن بن عوف. كان يعطي الفقراء والمساكين وذوي القربى، وينفق بسخاء في تجهيز جيوش المسلمين. فبارك الله -عز وجل- في ماله، وضاعف له أضعاف ما أنفق في سبيله، وهذا هو وعد الله لمن ينفق في سبيله.

كان عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- صاحب علم ورأي سديد. وعلى الرغم من مكانته وعلمه وغناه، كان متواضعاً جداً. تجلى تعففه في حادثة المؤاخاة، حيث آخى الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين سعد بن الربيع -رضي الله عنهما-. عرض سعد بن الربيع على عبد الرحمن بن عوف أن يأخذ نصف ماله، وأن يختار إحدى زوجتيه ليطلقها ويتزوجها عبد الرحمن، لكنه رفض وتعفف، واكتفى بالقول: “يا أخي دلني على السوق”، فمضى يسعى في التجارة، فبارك الله له.

وكان معروفاً بصلة رحمه. ذكر المسور بن مخرمة أنه باع أرضاً، فقسم المال على بني زهرة وفقراء المسلمين وأمهات المؤمنين، وأرسل إلى أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- فدعت له أن يسقيه الله من سلسبيل الجنة.

من صور إنفاقه أيضاً أنه كان يقضي حاجات المسلمين وأهل المدينة. فقد كان ماله موزعاً بين قضاء الديون، وصلة الأرحام، وإعطاء الفقراء. قال جعفر بن برقان: إن عبد الرحمن بن عوف قد أعتق ثلاثين ألف بيت، وفي زمن الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- تصدق بأربعة آلاف، ثم بأربعين ألفاً، وخمسمئة فرس، وكل هذا كان في سبيل الله -عز وجل-. وقد أوصى عبد الرحمن بن عوف لأهل بدر من ماله، كما أوصى بألف فرس في سبيل الله -عز وجل-.

المصادر

  1. علي الطنطاوي، عبد الرحمن بن عوف، صفحة 18-19. بتصرّف.
  2. أبو علي القرني، دروس الشيخ علي القرني، صفحة 22، جزء 38. بتصرّف.
  3. محمد الكندهلوي، حياة الصحابة، صفحة 540، جزء 2. بتصرّف.
  4. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمرو، الصفحة أو الرقم: 6416، صحيح.
  5. سورة غافر، آية: 39-40.
  6. محمد عويضة، فصل الخطاب في الزهد والرقائق والخطاب، صفحة 572-574. بتصرّف.
  7. صالح الواحد، سُبُل السَّلام مِن صَحيح سيرة خَير الأنَامِ عَليه الصَّلاة وَالسَّلام، صفحة 266. بتصرّف.
  8. الطبري، محب الدين، الرياض النضرة في المناقب العشرة، صفحة 308-312. بتصرّف.
  9. محمد عويضة، فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب، صفحة 570-571. بتصرّف.
Total
0
Shares
المقال السابق

نسمات الجمعة: تأملات و نفحات إيمانية

المقال التالي

خولة حمدي: كاتبة تونسية متميزة

مقالات مشابهة

أحكام حضور رؤية ذبح الأضحية

استكشاف أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بحضور ومشاهدة ذبح الأضحية. نظرة تفصيلية على حكم الحضور في حالات الذبح من قبل الغير أو بالتوكيل، بالإضافة إلى استعراض الحكمة من استحباب الحضور.
إقرأ المزيد