فصاحة وعظمة: أعلام الخطابة في التاريخ الإسلامي
رسول الله، القدوة في البلاغة والإقناع
كان النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- نموذجاً فريداً في فن الخطابة. فقد استخدم بلاغته لإيصال رسالة الإسلام، مُعتمداً على الفصاحة وسهولة الألفاظ وقوة المعاني. فقد كان يُستهل خطبه بالحمد والثناء على الله، ودعوة الناس إلى مكارم الأخلاق. وقد وصف نفسه بقوله -عليه الصلاة والسلام-: “نُصِرْتُ بالرُّعْبِ، وأُوتِيتُ جَوَامِعَ الكَلِمِ”،[٣] وكانت خطبه تجمع بين الموعظة والمعاني الروحية، والأحكام الشرعية اللازمة للمجتمع الإسلامي. ومن أشهر خطبه خطبة المدينة الأولى، التي بدأها بقوله: “الحمد لله أحمده، وأستعينه، وأستغفره، وأستهديه، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى والنور والموعظة على فترةٍ من الرسل، وقلةٍ من العلم، وضلالةٍ من الناس، وانقطاعٍ من الزمان، ودنوٍّ من الساعة، وقربٍ من الأجل…”.[٤]
أبو بكر الصديق: الصديق الأمين
كان أبو بكر الصديق أول من أسلم من الرجال، وأقرب الصحابة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقد تميزت خطبه بالفصاحة والبلاغة، مستخدماً ألفاظاً واضحة ومعاني تعكس قوة إيمانه ورجاحة عقله. وقد أشارت إليه آية كريمة بقوله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[٥]. وكانت خطبه تحث المسلمين على الالتزام بتعاليم النبي -صلى الله عليه وسلم-. ومن أشهرها خطبته يوم بيعة الخلافة: “أيّها الناس فإنّي قد وُلّيت عليكم، ولستُ بخيركم، فإن رأيتموني على حقّ فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدّدوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم، ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القويّ حتى آخذ الحق منه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم”.[٧]
عمر بن الخطاب: السلطان العادل
عمر بن الخطاب، ثاني الخلفاء الراشدين، كان خطيباً بارعاً. وقد ركزت خطبه على تحريض المسلمين على الجهاد والفتوحات، مستخدماً معانٍ قوية تُؤثر في القلوب. وقد قيل فيه أنه كان يتميّز بقدرته على إخراج حرف الضاد من أي شدق شاء. ومن خطبه المشهورة: “إن الله سبحانه وبحمده قد استوجب عليكم الشكر، واتّخذ عليكم الحجج فيما آتاكم من كرامة الآخرة والدنيا من غير مسألة منكم له، ولا رغبة منكم فيه إليه، فخلقكم تبارك وتعالى ولم تكونوا شيئًا لنفسه وعبادته وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض، وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة وحملكم في البرّ والبحر، ورزقكم من الطيبات لعلّكم تشكرون، ثم جعل لكم سمعا وبصرًا ومن نِعَم الله عليكم نِعَمٌ عمَّ بها بني آدم، ومنها نِعَمٌ اختصّ بها أهل دينكم”.[٩]
عثمان بن عفان: ذي النورين
عثمان بن عفان، ثالث الخلفاء الراشدين، لم تكن خطابته بنفس مستوى أبي بكر وعمر، لكنه كان حكيماً، وتملأ خطبه نفوس الناس بالحكمة. وقد قال ذات مرة: “أنتم إلى إمامٍ عادلٍ أحوجُ منكم إلى إمامٍ خطيبٍ”.[١١] ومن أمثلته الخطابية:[١٢] (إنكم في دار قلعة، وفي بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، فلقد أُتيتم، صُبِّحتُم أو مُسِّيتُم، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، اعتبروا بمن مضى، ثم جدوا ولا تغفلوا؛ فإنه لا يغفل عنكم، أين أبناء الدنيا وإخوانها الذي أثاروها وعمروها، ومتعوا بها طويلًا، ألم تلفظهم!، ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة…)
علي بن أبي طالب: أشهر خطباء المسلمين
تربى علي بن أبي طالب في بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان حكيماً وخطيباً بليغاً، تملأ مواعظه القلوب والعقول. وقد اشتهر باستخدام الحجة لإقناع الناس. يُعتبر إمام المنشئين، وكانت أكثر خطبه في الحث على الجهاد. ومن خطبه في المدينة:[١٤] “أيها الناس: كتاب الله وسنّة نبيكم صلّى الله عليه وسلم، أما بعد: فلا يدّعين مدّع إلا على نفسه، شغل من الجنة والنار أمامه. ساع نجا، وطالب يرجو، ومقصّر في النار…”.
عبد الله بن عباس: حبر الأمة
عبد الله بن عباس، ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، كان عالماً ورجل دين بارعاً. لقب بحبر الأمة لكثرة علمه وفقهه. ومن خطبه:[١٦] “أيها الناس: استعدوا للشخوص إلى إمامكم، وانفروا خفافًا وثقالًا، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم، فإنكم تقاتلون المحلين القاسطين، الذين لا يقرأون القرآن، ولا يعرفون حكم الكتاب، ولا يدينون دين الحق، مع أمير المؤمنين وابن عم رسول الله، الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، والصادع بالحق، والقيم بالهدى، والحاكم بحكم الكتاب، الذي لا يرتشي في الحكم، ولا يداهن الفجار، ولا تأخذه في الله لومة لائم”.
زياد بن أبيه: السياسي البليغ
زياد بن أبيه، كان سياسياً محنّكاً وخطيباً بليغاً. اشتهرت خطبته البتراء التي لم تبدأ بالبسملة والحمد: “أمّا بعد: فإنّ الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والفجر الموقِد لأهله النار، الباقي عليهم سعيرها: ما يأتي سُفهاؤكم، ويشتمل عليه حُلماؤكم من الأمور العظام؛ ينبُت فيها الصغير، ولا يتحاشى منها الكبير؛ كأن لم تسمعوا بآيِ الله، ولم تقرؤوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعدّ الله من الثواب الكبير لأهل طاعته،…”.[١٨]
سحبان بن وائل: الخطيب الحصيف
سحبان بن وائل، كان خطيباً سريع البديهة، قوي الحجة. امتاز بطول خطبه ووحدة موضوعها. ومن خطبه: “إنّ الدنيا دار بلاغ والآخرة دار قرار، أيها الناس فخذوا من دار ممركم إلى دار مقركم. ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم، وأخرجوا من الدنيا قلوبكم، قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها حييتم، ولغيرها خُلِقتم. إنّ الرجل إذا هلك قال الناس ما ترك؟، وقالت الملائكة: ما قدم؟، فقدموا بعضًا يكون لكم ولا تخلفوا كلاً يكون عليكم”.[٢٠]
الحجاج بن يوسف: الخطيب الحازم
الحجاج بن يوسف، كان حاكمًا صارمًا، يتميز بطلاقة لسانه وبلاغته وقوة حجته. ومن خطبه يوم ولاية الكوفة: “يا أهل الكوفة، إني لأرى رؤوسًا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها!، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى، ثم قال: والله يا أهل العراق، ما يُقعقع لي بالشنان، ولا يغمز جانبي كتغماز التين، ولقد فرزت عن ذكاء وفتشت عن تجربة، وإن أمير المؤمنين _أطال الله بقاءه_ نثل كنانته بين يديه، فعجم عيدانها، فوجدني أمرّها عودًا، وأصلبها مِكسرًا، فرماكم بي؛ لأنكم طالما أوضعتم الفتنة، وأضجعتم في مراقد الضلال”.[٢٢]
يزيد بن المهلب: البلاغة والحزم
يزيد بن المهلب، كان خطيباً بليغاً، وقد حرض أصحابه على قتال مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد بقوله: “إنّ هؤلاء القوم لن يردهم عن غيتهم إلا الطعن في عيونهم، والضرب بالمشرفية على هامهم ثم قال: إنه قد ذكر لي أن هذه الجرادة الصفراء -يعني مسلمة بن عبد الملك- وعاقر ناقة ثمود -يعني العباس بن الوليد- وكان العباس أزرق أحمر، كانت أمه رومية، والله لقد كان سليمان أراد أن ينفيه، حتى كلمته فيه؛ فأقره على نسبه…”.[٢٤]
واصل بن عطاء: بلاغة رغم عيب النطق
واصل بن عطاء، معتزلي معروف ببلاغته وسرعة بديهته، رغم عيبه في النطق بحرف الراء. وقد أصبحت خطبته الشهيرة مثالاً يُضرب في بلاغته: “الحمد لله القديم بلا غاية، والباقي بلا نهاية، الذي علا في دنوّه، ودنا في علوّه، فلا يحويه زمان، ولا يُحيط به مكان، ولا يؤوده حفظ ما خلق، ولم يخلقه على مثال سبق، بل أنشأه ابتداعًا، وعدّ له اصطناعاً، فأحسن كل شيء خلقه، وتمم مشيئته، وأوضح حكمته، فدل على ألوهيته…”.[٢٦]
مصعب بن الزبير: الفارس الخطيب
مصعب بن الزبير، كان فارساً شجاعاً وخطيباً. ومن خطبه عند ولاية البصرة: بدأ بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم (طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)،[٢٩] وأشار بيده نحو الشام (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)،[٣٠] وأشار بيده نحو الحجاز (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ).[٣١]
معاوية بن أبي سفيان: الكاتب والحاكم
معاوية بن أبي سفيان، كان من كتبة الوحي، وشارك في غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم-. امتاز ببلاغته، ومن خطبه في أهل الكوفة: “يا أهل الكوفة، أتراني، قاتلتُكم على الصلاة والزكاة والحجّ، وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون، ألا إنّ كلّ مالٍ أو دمٍ أصيب في هذه الفتنة فمطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين، ولا يصلح الناس إلا ثلاث: إخراج العطاء عند محله، وإقفال الجنود لوقتها، وغزو العدوّ في داره، فإنّه إن لم تَغْزُوهم غَزَوكم”.[٣٥]