الهجرة الخفية: مفتاح التغيير ونصرة المستضعفين

الهجرة الخفية: من مكة إلى آفاق جديدة. كانت الهجرة السرية بارقة أمل للمستضعفين وأساسًا لدولة ناشئة. تعرف على تفاصيل هذه المرحلة الحاسمة.

نداء الهجرة في مكة

لقد أمضى الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- سنوات عديدة في مكة يدعو الناس إلى اعتناق الإسلام بكل الوسائل الممكنة، ساعيًا لنشر رسالته الربانية. ولكن مع ازدياد عدد المؤمنين بالإسلام، اشتعل غضب المشركين من قريش، وشعروا بتهديد حقيقي عندما رأوا الرسول -عليه الصلاة والسلام- ينتقد عبادة الأصنام ويدعو إلى دين جديد.

نتيجة لذلك، بدأوا في تعذيب المؤمنين وقتلهم وسجنهم، بالإضافة إلى محاربة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودعوته. وفي ظل هذه الظروف القاسية، أصبحت الهجرة السرية بمثابة نداء للمسلمين للابتعاد عن بطش قريش وتجنب أذاهم.

رجاء المستضعفين في الهجرة

بعد سنوات من الاضطهاد والمعاناة التي تعرض لها المسلمون المستضعفون في مكة، أصبح من الضروري إيجاد حل لحمايتهم من بطش الكفار. فمع إعلان الدعوة الإسلامية، زادت وتيرة الظلم والقهر الذي مارسته قريش ضد أتباع الرسول -عليه السلام-.

لقد استخدمت كل قبيلة من قريش ما لديها من قوة لإيذاء المسلمين، وتوعدتهم بأشد أنواع العذاب. كانوا يجوعونهم ويعطشونهم، ويجبرونهم على البقاء تحت أشعة الشمس الحارقة. وفي بعض الأحيان، كانوا يضعون صخرة عظيمة على صدر المسلم وهو مستلق على الأرض.

كان المشركون يفعلون ذلك لإجبار المسلمين على ترك دين الإسلام والعودة إلى عبادة الأصنام. بل إنهم كانوا يلبسون بعض المسلمين المستضعفين دروعًا حديدية ويعرضونهم لأشعة الشمس الحارقة. وكان أبو جهل، إذا علم بإسلام تاجر، هدده بإهلاك ماله، وإذا علم بإسلام ضعيف، ضربه وآذاه.

لقد تعرض أتباع الرسول -عليه السلام- في بداية الدعوة إلى الإسلام إلى صور مختلفة من الأذى والتعذيب والتنكيل. ولكن ذلك لم يزدهم إلا صبرًا وثباتًا، ولم يرتدوا عن دين الحق. ولم يتمكن مشركو مكة من ثني عزيمة المسلمين عن اتباع دين الإسلام ونشر دعوته السامية.

لذلك، أمر الرسول -عليه السلام- المسلمين بالهجرة إلى الحبشة لإنقاذ من بقي منهم، نظرًا لعدل ملكها الذي لا يظلم أحدًا. واتجه المسلمون إلى أرض الحبشة ليحافظوا على أنفسهم وعلى دينهم بعد أن ضاق عليهم العيش في مكة. فغضب قريش لن يهدأ حتى يقضوا على جميع المسلمين أو يتمكنوا من ردهم عن دينهم وإسكاتهم عن الحق وإعادتهم إلى الجهل ودين الباطل.

لذلك، كان بقاء المسلمين في مكة في ظل هذه الظروف يشكل خطرًا كبيرًا يجب الحذر منه. وكان لا بد من إيجاد طريقة تجعلهم آمنين بعيدًا عن أيدي الكفار وعن أعينهم وظلمهم وأذاهم. ومن المهم أن نعلم أن أسباب هجرة المسلمين المستضعفين إلى الحبشة كانت متنوعة، وكان أول سبب هو شدة البلاء والعذاب الذي حل بهم، وخوفهم على دينهم من الفتنة.

لقد فروا حاملين معهم الدعوة إلى الإسلام خشية الافتتان عن دينهم الذي آمنوا به وضحوا في سبيل الدفاع عنه وعن رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-. وكان لا بد للمسلمين من الحفاظ على الدعوة الإسلامية من الانهيار وحمايتها من الضياع؛ فقد كانت قريش تتميز بالقوة والنفوذ الكبير وعلاقاتها الواسعة والمتعددة مع الكثير من العرب.

خاف المسلمون من تكوين قريش لقوة ضدهم من خلال الاستعانة بالعرب الذين تجمعها بهم العديد من الروابط، وذلك عندما شعرت قريش بالخطر من المسلمين ومن ازدياد أعدادهم وظهور دينهم الجديد الذي يدعون إليه إلى العلن. وإن نشر الدعوة الإسلامية خارج مكة كان من أسباب هجرتهم إلى الحبشة.

عندما ازداد عدد المسلمين وبدأ الإسلام بالظهور وتحدث الناس عنه علنًا، غضب المشركون من كفار قريش كثيرًا. كانوا يعتقدون في البداية أن هذا الدين سيختفي بعد مدة من الزمن وينتهي أمره، ولكن عندما رأوا إقبالًا من أهل مكة على اعتناق الإسلام، وأن أعداد أتباع الرسول في ازدياد، أرادوا فتنة من آمن بدين الإسلام.

فأنزلوا شتى أنواع التعذيب بالمسلمين وقاموا بسجنهم، فأمر الرسول الكريم أتباعه بالهجرة إلى الحبشة. اختار الرسول -عليه السلام- الهجرة إلى الحبشة تحديدًا لمعرفته الواسعة بأحوال شبه الجزيرة العربية وبالبلاد والمدن الأخرى، فكانت الحبشة أكثر أمانًا للمسلمين من أي مكان آخر؛ لأن القبائل العربية كانت تربطها بقريش علاقات وثيقة وروابط متينة.

هذه العلاقات والروابط كانت تمنع القبائل العربية من استقبال المسلمين إذا عزموا على الهجرة إليها، وبلاد اليمن كانت غير مستقرة وتحدث فيها الصراعات والتنافس بين الفرس والروم، ولم تكن هناك أي مدينة من مدن الجزيرة العربية صالحة كي تكون مكانًا مناسبًا لإيواء المسلمين وحمايتهم.

أما الحبشة فكانت خالية من القبائل العربية، وعدم وجود القبائل العربية فيها يمنع قريش من التحالف معها لتكوين قوة ضد المسلمين. وكان ملك الحبشة النجاشي معروفًا بعدله لعلمه بالتوراة والإنجيل، وكذلك أهلها النصارى، وكان وجودهم أحد الأسباب في اختيار المسلمين الهجرة إليها، إضافة إلى كون الحبشة أرضًا مستقلة لا تخضع لأحد، وبُعدها عن مكة.

الهجرة السرية: أساس لبناء دولة

تجدر الإشارة إلى أن الهجرة السرية للمسلمين كانت سببًا جوهريًا في انتشار الإسلام في مختلف أنحاء العالم، فهي التي مهدت الطريق للهجرة الكبرى إلى المدينة، ووضعت الأسس اللازمة لها. وبعد فترة قضاها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مكة، هاجر إلى المدينة.

عند الوصول إلى المدينة، قام الرسول والصحابة ببناء مسجد، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار، وتوحد المسلمون فيما بينهم، وتم تأسيس الدولة الإسلامية القوية التي انطلقت منها الفتوحات، وانتشر الإسلام في أقاصي الأرض في زمن ربما لم يكن المسلمون أنفسهم يتوقعون هذه السرعة.

Total
0
Shares
اترك تعليقاً
المقال السابق

الهجرة: دوافعها وتأثيراتها وسبل التعامل معها

المقال التالي

وصف للوطن الجزائر – مقال

مقالات مشابهة