الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم
معنى النسخ في القرآن
يُعد علم الناسخ والمنسوخ من أهم علوم القرآن، وله ارتباط وثيق بالتشريع.
فقد قال الإمام مالك: “لا تجوز الفتوى إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه”.
وعندما سُئل: “اختلاف أهل الرأي؟” قال: “لا، اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك يفتي”. [١]
وقد كُتب في هذا العلم العديد من المؤلفات قديماً وحديثاً، من أشهرها تأليف القاضي أبي بكر العربي. [٢]
وإجماع المسلمين على وقوع النسخ في القرآن الكريم، لقوله تعالى:
(مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، [٣]
وقوله تعالى:
(وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ۙ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). [٤]
للنسخ في اللغة معنيان: إزالة الشيء وإعدامه، ونقل الشيء وتحويله مع بقائه في نفسه.
وفي اصطلاح الفقهاء: رفع الشارع حكماً شرعياً بدليل شرعي متأخر.
ويعني رفع الحكم الشرعي عدم تعلقه بأفعال العباد المكلفين، وليس رفعه هو.
والدليل الشرعي هو وحي الله مطلقاً، بما في ذلك الكتاب والسنة. [٥]
الناسخ هو الحكم الرافع للحكم الآخر، والمنسوخ هو الحكم المرتفع.
والقاعدة المطردة عند المتأخرين في النسخ: النسخ يكون في الأحكام لا في الأخبار.
ولكن عند السلف يختلف المعنى الاصطلاحي للنسخ، حيث يدخل فيه تغير الأحكام عند المفسرين. [٦]
قواعد النسخ في القرآن
لتحديد وقوع النسخ، هناك شروط يجب توفرها:
- لا يمكن أن يكون أي قول أو عمل بعد النبي صلى الله عليه وسلم ناسخًا، ويستحيل أن يكون بالإجماع. [٨]
- يجب أن يكون المنسوخ حكماً شرعياً، وليس خبراً مثلاً.
- يجب أن يكون دليل النسخ في رفع الحكم الشرعي دليلاً شرعياً من الكتاب أو السنة.
- يجب أن يكون الدليل الرافع للحكم متراخياً، أي نازلاً بعد المنسوخ.
- يجب أن يكون بين الدليلين تعارض حقيقي.
- لا ينبغي أن يكون الخطاب المرفوع حكمه مقيداً بوقت معين، لأنه ينتهي بوقته وليس بالنسخ. [١٠]
أقسام النسخ للقرآن
أقسام النسخ في القرآن هي:
نسخ القرآن بالقرآن
اتفق العلماء على جواز نسخ القرآن بالقرآن، كما في قول الله تعالى:
(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِين)، [١١]
نُسخ بقوله تعالى:
(فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ). [١٢]
نسخ القرآن بالسنة
يجوز عند جمهور العلماء، بما فيهم مالك وأبو حنيفة وأحمد، نسخ القرآن بالسنة المتواترة، لأن السنة أيضًا من الوحي لقوله تعالى:
(وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)، [١٣]
ولكن عند جمهور العلماء عدم جواز النسخ بخبر الآحاد، لعدم جواز نسخ ما هو قطعي الثبوت بدليل ظني الثبوت.
كذلك منع الشافعي رحمه الله وأصحاب المذهب الظاهري النسخ بالسنة مطلقاً ولو كانت متواترة، واحتجّوا بقوله تعالى:(مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). [١٤]
نسخ السنة بالقرآن
مثال ذلك نسخ القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام في مكة المكرمة.
فالأولى ثبتت بالسنة، ونُسخت بالقرآن في قوله تعالى:(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ). [١٥]
أنواع النسخ في القرآن
أنواع النسخ في القرآن هي:
نسخ التلاوة والحكم معاً
ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
(نزل في القرآن عشر رضعات معلومات، ثم نزل أيضا خمس معلومات)، [١٦]
فهنا نُسِخَ الحكم ولا وجود له في المصاحف، فنُسخت تلاوته.
نسخ الحكم وبقاء التلاوة
مثال ذلك نسخ حكم آية العدة بالحول مع بقاء تلاوتها، في قوله تعالى:
(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)، [١٧]
التي نَسخت بقوله تعالى:
(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ). [١٨]
نسخ التلاوة مع بقاء الحكم
مثال ذلك آية الرجم التي وردت في أخبار الآحاد، فعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال:
(كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة، فكان فيها: الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البتة)، [١٩]
وهذه الآية ليست موجودة في المصاحف، أي نُسخت تلاوتها، وبقي حكم الرجم.
موقف العلماء في عدد الآيات المنسوخة
تعدَّدت آراء العلماء في عدد الآيات المنسوخة، فمنهم المتحرّي الذي يعتمد على النقل الصحيح في النسخ، ومنهم المُكثر الذي اشتبه عليه الأمر فأدخل في النسخ ما ليس منه. [٢٠]
وذهب ابن حزم إلى أن آيات النسخ تبلغ مئتين وأربع عشرة آية، وذهب أبو جعفر النحاس إلى أنّها تبلغ مئة وأربعاً وثلاثين آية.
وأوصلها ابن سلامة إلى مئتين وثلاث عشرة آية، وقصرها عبد القاهر البغدادي إلى ست وستين آية.
واعتبر ابن العربي أن عدد الآيات المنسوخة لا تتجاوز مئة آية. [٢٠]
سبب هذا التعدد في الآراء هو أن البعض أدخل في النسخ ما ليس منه، فمنهم من اعتبر ما أبطله الإسلام من أمر الجاهلية، أو من شرائع الأمم السابقة نسخاً، كتحديد عدد الزوجات بأربع.
ومنهم من اعتبر التخصيص والبيان نسخاً، وما شُرع لسببٍ ثمَّ زال السبب من المنسوخ. [٢١]
المراجع
- [١] يوسف ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، صفحة 317. بتصرّف.
- [٢] مساعد الطيار، شرح مقدمة التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي، صفحة 108. بتصرّف.
- [٣] سورة البقرة، آية:106
- [٤] سورة النحل، آية:101
- [٥] محمد الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرءان، صفحة 176. بتصرّف.
- [٦] مساعد الطيار، أنواع التصنيف المتعلقة بتفسير القرءان الكريم، صفحة 103. بتصرّف.
- [٧] مساعد الطيار، المحرر في علوم القرآن، صفحة 116. بتصرّف.
- [٨] محمد فاروق النبهان، المدخل إلى علوم القرآن، صفحة 153. بتصرّف.
- [٩] محمد الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، صفحة 180. بتصرّف.
- [١٠] محمد عابد، نفحات من علوم القرآن، صفحة 78. بتصرّف.
- [١١] سورة البقرة، آية:184
- [١٢] سورة البقرة، آية:185
- [١٣] سورة النجم، آية:3-4
- [١٤] سورة البقرة، آية:106
- [١٥] سورة البقرة، آية:144
- [١٦] رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عائشة، الصفحة أو الرقم:1452.
- [١٧] سورة البقرة، آية:243
- [١٨] سورة البقرة، آية:240
- [١٩] رواه ابن حبان، في صحيح ابن حبان، عن أبي بن كعب، الصفحة أو الرقم:4428.
- [٢٠] محمد فاروق النبهان، المدخل إلى علوم القرءان، صفحة 152. بتصرّف.
- [٢١] مناع القطان، مباحث في علوم القرآن، صفحة 249. بتصرّف.