جدول المحتويات
لمحة عن المدرسة الطبيعية المتأخرة
تمثل المدرسة الطبيعية المتأخرة تيارًا فلسفيًا يضم نخبة من المفكرين اليونانيين الذين كرسوا جهودهم لاستكشاف أصول الكون وتفسير الظواهر الطبيعية. ما يميز هؤلاء الفلاسفة هو اعتمادهم على الملاحظة والتجربة في فهم الوجود، بدلًا من الاعتماد على التفسيرات الميتافيزيقية البحتة. يعتبر هؤلاء العلماء امتدادًا للجهود الفلسفية التي بدأها طاليس وغيره من الرواد الأوائل. وقد تأثروا بالفلسفات السابقة، سواء كانت ذات توجه طبيعي أو غير ذلك، كالفلسفة الفيثاغورية.
أعلام الفكر الطبيعي المتأخر
من بين الشخصيات البارزة التي ساهمت في إثراء هذا التيار الفلسفي:
أنبادوقليس: رائد العناصر الأربعة
ولد أنبادوقليس في مدينة أغريغنتوم بصقلية، وبرع في مجالات متعددة كالفلسفة والشعر والطب والبلاغة. وصفه أرسطوفان بأنه “مؤسس علم البيان”. تأثر أنبادوقليس بفيثاغورس، وتميز بعواطفه الدينية القوية وأخلاقه الرفيعة. في فلسفته، رفض أنبادوقليس فكرة إرجاع الوجود إلى عنصر واحد، وقدم نظرية تقوم على أربعة عناصر أساسية.
تقوم نظرية أنبادوقليس على أن الكون يتكون من أربعة عناصر رئيسية: الماء والهواء والنار والتراب. وأكد على أن هذه العناصر متساوية في الأهمية ولا يوجد ترتيب هرمي بينها. لكل عنصر خاصية مميزة: النار تتميز بالحرارة، والماء بالرطوبة، والتراب باليبوسة، والهواء بالجفاف. تجتمع هذه العناصر لتكوين الأشياء، وتنفصل لتفكيكها، وذلك بفعل قوتين: المحبة والكراهية.
ديموقريطس ونظرية الذرة
ديموقريطس، الفيلسوف اليوناني الذي ولد في مدينة أبديرا، اشتهر برحلاته الواسعة واهتمامه بالرياضيات والهندسة. أسس مدرسة خاصة به وتأثر بالفيلسوف لوقيبوس. كان له تأثير كبير على فلسفة أرسطو. على الرغم من أهمية أعماله الفلسفية، إلا أن المعلومات المتاحة عنه قليلة.
سعى ديموقريطس إلى التوفيق بين المدرسة الإيلية والتجارب العلمية. تبنى فكرة الإيليين بأن الوجود عبارة عن “ملاء” ولا فراغ فيه، وخلص إلى أن أصل الأشياء هو الذرات المكونة لها. هذه الذرات مادية، وهو ما أدى إلى تسمية مذهبه بـ “المذهب الذري”. رأى ديموقريطس أن الحركة هي التي تعصف بالجوهر منذ القدم. كما تصور أن العناصر الأثقل تهبط إلى الأسفل، بينما تصعد العناصر الأخف إلى الأعلى، مثل الهواء والتراب.
فيما يتعلق بمفهوم النفس، اعتبرها ديموقريطس مادية وتتألف من جزيئات دقيقة وسريعة الحركة، لأنها مبدأ الحركة في الكائنات الحية. وقد وصف النفس بأنها جسم ناري ينتشر في الهواء ويتغلغل في الجسم ليجدده. ولأن النفس هي أساس الحياة والحركة، فهي مركز الإحساس والفكر.
أنكساغورس ومفهوم الأجزاء اللامتناهية
أنكساغورس، الفيلسوف اليوناني الذي ولد بالقرب من مدينة إزمير، ينتمي إلى عائلة نبيلة وتلقى تعليمًا متميزًا. انتقل إلى أثينا في الأربعينيات من عمره واهتم بالعلوم الطبيعية والإنسانية. اعتقد أنكساغورس أن الأشياء تختلف عما تبدو عليه، وأن تقسيم الأشياء إلى ذرات لا يلغي حقيقة أن الأجزاء تحمل نفس طبيعة الكل.
أكد أنكساغورس على أنه لا يمكن إرجاع الأشياء إلى عنصر أولي واحد، بل إلى طبيعة الشيء المراد تحليله. تبنى المبدأ القائل بأنه “لا شيء يخرج من العدم”، وهو مبدأ يوناني قديم. كما أقر بأن طبائع الأشياء أزلية، ولكنها لا تتحرك بذاتها، بل تحتاج إلى محرك.
ولقد ذكر القرآن الكريم هذه الحقيقة في قوله تعالى: “اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ” [الرعد: 2]. ويدل هذا على أن الله تعالى هو المحرك الأول لكل شيء في الكون.
وكما جاء في الحديث الشريف: “إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا” [صحيح البخاري].
المصادر
- History of Naturalism
- Greek Philosophy
- يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، صفحة 51-60.