مقدمة
الغيبة والنميمة من الآفات الاجتماعية الخطيرة التي تهدد تماسك المجتمعات وتزرع بذور الفتنة والشقاق بين الأفراد. الإسلام، بدوره، حرّم هذه الأفعال تحريماً قاطعاً لما لها من آثار مدمرة على العلاقات الإنسانية والقيم الأخلاقية. يجب على كل مسلم أن يعي خطورة هاتين الخصلتين وأن يسعى جاهداً لتجنبهما والابتعاد عنهما.
تحديد مفهوم الغيبة
الغيبة مشتقة لغوياً من كلمة “الغيب”، وهي تعني كل ما هو مستور عنك. سُميت الغيبة بهذا الاسم لأنها تتم في غياب الشخص الذي يتم ذكره. أما في الاصطلاح الشرعي، فقد عرّفها النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- تعريفاً دقيقاً ومانعاً، وذلك حين سأل أصحابه: “أتدرون ما الغِيبةُ؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلمُ، قال: ذِكرُك أخاك بما يَكرهُ”. هذا التعريف يوضح أن الغيبة هي ذكر الشخص بأمر يكرهه سواء كان متعلقاً بجسده، أو دينه، أو خلقه، أو ماله، أو أي شيء آخر يخصه. ولا يقتصر الأمر على الكلام اللفظي، بل يشمل الإشارة والرمز والتلميح. ومن صور الغيبة المستترة قول البعض “نسأل الله العافية” أو “الله يتوب علينا” بأسلوب يوحي بالاستهزاء أو الانتقاص من الآخرين. البعض الآخر قد يمارس الغيبة في قالب التعجب، كأن يقول “تعجبت من فلان كيف يفعل كذا وكذا”.
وقد بيّن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- الفرق بين الغيبة والبهتان، فقال حين سأله أحد أصحابه:“أرأيتَ إن كانَ فيهِ ما أقولُ؟ قالَ: إن كانَ فيهِ ما تقولُ فقَدْ اغتبتَهُ وإن لم يَكن فيهِ ما تقولُ فقد بَهتَّهُ”. فالبهتان هو اتهام الشخص بما ليس فيه، وقد يحدث في حضوره أو غيابه. وتتنوع صور الإساءة للآخرين في القرآن الكريم، فتارة تكون غيبة، وتارة بهتاناً، وتارة إفكاً. فالغيبة هي ذكر ما هو موجود في الشخص، والإفك هو نقل ما قيل عنه، والبهتان هو ذكر ما ليس فيه. وقد أجمع العلماء على حرمة الغيبة، مستندين إلى قوله تعالى: “وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ”. واختلف العلماء في تصنيفها ككبيرة أو صغيرة، فمنهم من اعتبرها كبيرة نظراً للوعيد الشديد الوارد بشأنها، ومنهم من فصل في الأمر، معتبراً أن اغتياب العالم أو الولي ليس كغيره.
كيفية صون اللسان عن الغيبة والنميمة
لحماية اللسان من الوقوع في الغيبة والنميمة، يجب على المسلم أن يكون حريصاً على محاسبة نفسه ومراقبة أقواله وأفعاله. يمكن تحقيق ذلك من خلال عدة خطوات، منها:
- التفكر في عواقب الغيبة والنميمة الوخيمة في الدنيا والآخرة.
- تذكر أن الله تعالى يراقب كل ما نقول ونفعل.
- الاشتغال بعيوب النفس وإصلاحها بدلاً من تتبع عيوب الآخرين.
- تجنب الجلوس في المجالس التي تكثر فيها الغيبة والنميمة.
- الدعاء إلى الله تعالى أن يعيننا على حفظ ألسنتنا.
توضيح مفهوم النميمة
النميمة هي نقل الكلام بين الناس بقصد الإفساد وإثارة الفتنة. وهي من كبائر الذنوب التي حذر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- منها. قال تعالى: “وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ”. وقد توعّد النبي -صلى الله عليه وسلم- النمّام بعدم دخول الجنة، فقال: “لا يدخلُ الجنَّةَ قتَّاتٌ”. والقتات هو النمام، وقيل أن الفرق بينهما هو أن النمام ينقل ما شاهده، بينما القتات ينقل ما سمعه. فالذي يسعى بالنميمة بين الناس يعذب في قبره قبل يوم القيامة، مصداقاً لما ورد في الحديث الصحيح حين مرّ رسول الله على قبرين يعذب أصحابهما، وكان أحدهما يسعى بالنميمة بين الناس. وأخطر أنواع النميمة هي تلك التي تهدف إلى إيقاع الفتنة بين العلماء والحكام، أو تلك التي تدفع إليها الحسد.
ولتجنب الوقوع في النميمة، يجب على المسلم أن يعلم أن النمام مُعرض لسخط الله وعقوبته، وأنها تخسره حسناته. كما يجب عليه أن ينشغل بنفسه وعيوبه وتطهير نفسه منها، فلا ينشغل بغيره، ويعلم أن ما يؤذي الناس يؤذيه إن وضع نفسه مكان الطرف الآخر.
تداعيات الغيبة على الفرد والمجتمع
للغيبة آثار وخيمة على الفرد والمجتمع، منها:
- زيادة السيئات ونقصان الحسنات.
- إفلاس المغتاب يوم القيامة.
- هجران الناس للمغتاب وتجنب مجالسته.
- تأثير الغيبة على الصوم.
- عدم مغفرة الله للمغتاب إلا بعد أن يغفر له من اغتابه.
وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:“أتدرون ما المفلِسُ؟ قالوا: المفلِسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاعَ، فقال: إنَّ المفلسَ من أمَّتي، يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، وسفك دمَ هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه، فإن فَنِيَتْ حسناتُه، قبل أن يقضيَ ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه، ثمَّ طُرِح في النَّارِ”.
تداعيات النميمة على الفرد والمجتمع
للنميمة آثار مدمرة على الفرد والمجتمع، منها:
- النميمة طريق إلى النار.
- إثارة البغضاء والعداوة بين الناس.
- التسبب في الأذى والألم والخصام والنفور.
- دلالة على الدناءة والجبن والضعف والنفاق.
- إزالة المحبة والألفة والمودة.
- تعد عاراً على من يقولها ومن يسمعها.
- تدفع صاحبها إلى التجسس وتتبع أخبار الناس.
- تؤدي إلى قطع أرزاق الناس وتمزيق المجتمعات.
النميمة تحلق الدين، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “أَلَا أَدُلُّكُم على أَفْضَلَ من درجةِ الصلاةِ والصيامِ والصدقةِ؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ، قال: إصلاحُ ذاتِ البَيْنِ فإنَّ فسادَ ذاتِ البَيْنِ هي الحالِقَةُ، لا أقولُ: إنها تَحْلِقُ الشَّعْرَ ولكن تَحْلِقُ الدِّينَ”.