السمات الفنية في شعر المتنبي
لكل عمل إبداعي صفات فنية خاصة تميزه، سواء على مستوى الشكل أو المحتوى، وتتجلى في اللغة وبلاغتها. يتميز شعر المتنبي بخصائص فنية متعددة، تنقسم إلى خصائص لغوية وأخرى بلاغية. فيما يلي شرح لكل منها:
الخصائص اللغوية
عُرف المتنبي كشاعر طموح يسعى دائماً لتحقيق ذاته رغم التحديات التي واجهته في حياته. كان شعره مرتبطًا بشكل وثيق بحياته وشخصيته، ومعظم قصائده ما هي إلا ترجمة لشخصيته المتميزة ومواقفه في الحياة. لقد ابتكر لغة جديدة وفريدة من نوعها، ونوعية من الكلمات تناسب طموحه لتلبية احتياجات نفسه المتمردة.
يذكر محمد زكي العشماوي في دراسته عن المتنبي في كتابه “موقف الشعر من الفن والحياة في العصر العباسي” أن للغة المتنبي تشكيلات خاصة يتكون منها نسيجه الشعري، والتي تبطل معها اللغة أن تكون مجرد مجموعة متآلفة من الأصوات تدل اصطلاحًا على مقابل مادي، فتصبح صورة صوتية وحدسية معًا، والعلاقة بين معناها ولفظها تقوم إما على اقتران الصوت بالموضع أو الموقف الفكري أو الرؤية، وإما على اقترانه بالحس والحدس.
سعى المتنبي إلى إيجاد أسلوب جديد في الشعر يختلف عن الأسلوب التقليدي، وقد نجح في ذلك. لقد صاغ الحكمة بأسلوب بديع ظهر جلياً في شعره، وخاصة في قصائده في مدح سيف الدولة الحمداني، والتي عبر فيها عن حبه له وإيمانه بصفاته. جاءت مقدمات القصائد في غاية الروعة، وبها لغة غريبة تدل على أن الشاعر متمكن من اللغة، فيتصرف بها كيف يشاء، فتارة يقدم، وتارة يؤخر، وتارة يحذف، مستخدمًا المحسنات البديعية ببراعة، والألفاظ القوية التي تظهر معاني الاعتزاز بالنفس والسمو بدلالة رائعة وإيقاع صوتي قوي، ومن ذلك قوله:
عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ
وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ
وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها
وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ
وقوله أيضاً:
إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ
فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ
فطَعْمُ المَوْتِ في أمْرٍ حَقِيرٍ
كطَعْمِ المَوْتِ في أمْرٍ عَظيمِ
من أهم الخصائص اللغوية التي تميز بها شعر المتنبي:
استخدام أسلوب الإشارة
أكثر شعراء العصر العباسي من استخدام أساليب الإشارة، مثل أبي تمام والمتنبي الذي امتلأ ديوانه بهذه الأساليب، فلا تكاد تخلو قصيدة من قصائده منها، ومن الأمثلة على ذلك قوله في مدح عبد الله بن يحيى البحتري:
أذا الغُصْنُ أم ذا الدِّعصُ أم أنتِ فتنةٌ
وذَيّا الذي قَبّلتُهُ البَرْقُ أمْ ثَغرُ
نلاحظ هنا أنه كرر اسم الإشارة (ذا) في نفس البيت مرتين، وصغرها مرة بقوله (ذيّا)، وقوله في مدح (الأوراجي) حيث استخدم ضمير الغائب أربع مرات في نفس البيت؛ ثلاث مرات بصيغة المذكر ومرة بصيغة المؤنث:
يا أيّهَا المُجدَى علَيْهِ رُوحُهُ
إذْ لَيسَ يأتيهِ لها اسْتِجداءُ
استخدام أسلوب النداء
كما عُرف عن المتنبي إكثاره من استخدام أساليب النداء، في قصائده المختلفة، ومثال ذلك قوله:
يا أعدَلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي
فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ
وقوله:
فيا ابنَ الطّاعِنينَ بكُلّ لَدْنٍ
مَواضعَ يَشتَكي البَطَلُ السُّعالا
ويا ابنَ الضّارِبينَ بكُلّ عَضْبٍ
منَ العَرَبِ الأسافِلِ والقِلالا
الإكثار من استخدام الضمائر
يرى الناظر في شعر المتنبي إكثاره لاستخدام الضمائر، وهو بذلك يشابه نهج الأسلوب الصوفي، على وجه إتيانه بضمائر متتابعة في البيت الواحد، مما يضفي غموضاً على البيت الشعري، ومثال ذلك قول الحلاج:
عجبتُ منك و منـّـي
يا مُنـْيـَةَ المُتـَمَنّـِي
أدنيتـَني منك حتـّـى
ظننتُ أنـّك أنـّــي
وقد نقل الثعالبي بعض أبيات المتنبي التي يكثر فيها من استخدام الضمائر، وذلك في قوله:
وَتُسْعِدُني في غَمرَةٍ بَعدَ غَمْرَةٍ
سَبُوحٌ لهَا مِنهَا عَلَيْهَا شَوَاهِدُ
وقوله أيضاً:
ولَوْلا أنّني في غَيرِ نَوْمٍ
لَكُنْتُ أظُنّني مني خَيَالا
هذا وظهر في شعر المتنبي استخدامه لضمير المتكلم (أنا)، وذلك إن دل على شيء فإنما يدل على جانب الفخر والاعتزاز في شخصيته، ومثال ذلك قوله:
أنا صَخْرَةُ الوادي إذا ما زُوحمَتْ
وإذا نَطَقْتُ فإنّني الجَوْزاءُ
وقوله:
أنَا تِرْبُ النّدَى وَرَبُّ القَوَافِي
وَسِمَامُ العِدَى وغَيظُ الحَسودِ
أَنَا في أُمّةٍ تَدارَكَهَا اللّـه
غَريبٌ كصَالِحٍ في ثَمودِ
التصغير
كثر التصغير في ديوان المتنبي بصورة مبالغ فيها، وقد استخدمه في شعر المدح بهدف تقليل الشأن والإهانة، لا سيما في مهاجمة أعدائه، ويشار إلى أن استخدام المتنبي للتصغير في شعره عائد إلى تكوين شخصيته المتعالية، وذلك كقوله:
أفي كلّ يوْمٍ تحتَ ضِبْني شُوَيْعِرٌ
ضَعيفٌ يُقاويني قَصِيرٌ يُطاوِلُ
أو بهدف اللطافة والتعظيم كقوله:
أُحادٌ أمْ سُداسٌ في أُحَادِ
لُيَيْلَتُنَا المَنُوطَةُ بالتّنادِي
الغرائب والشواذ النحوية
كثر في شعر المتنبي الشاذ والغريب من اللفظ، ومن التراكيب، والقواعد النحوية، ويقال إن المتنبي لجأ إلى هذا الأسلوب لبيان مهارته في استخدامها، وليثبت معرفته الواسعة في اللغة وعلم النحو، وتقليداً للشعر الجاهلي، أو أنه قد وجد في استعمال الغريب والشاذ في شعره طاقة تعبيرية تمنحه القدرة على التحليق بخياله الواسع. ومن الأمثلة على الألفاظ الغريبة والشاذة في شعر المتنبي؛ (المخشلب، الختروانة، الإتشاك، الساحي، الخفش، قدى، وغيرها).
ويرى ابن جني أن قول المتنبي للشاذ والغريب في شعره ليس جهلاً أو قلة دراية، فقال في ذلك: “فلم يكن المتنبي جاهلاً أو غافلاً عما يقوله في شعره ويعنيه، إنما كان خروجه عن الإعراب وإتيانه بالشاذ والنادر من الألفاظ عن وعي ودراية، وإنما هو الشعر الذي لا يقف عند حد ولا منتهى لحريته في ملاحقته للمعنى والقبض على الدلالة”، ومن ناحية أخرى هناك من يشير إلى أن هذه الغرائب في مدائح المتنبي قد سببت غموضاً في شعره، ما دفع النقاد واللغويون إلى شرحه وتفسيره، فظهرت عدة شروح لديوان المتنبي بلغت الخمسين شرحاً وتزيد.
وصف استخدام الشاذ والغريب | من حيث الألفاظ |
---|---|
استخدام لفظة (التوارب)، وقد عني بها التراب، ومثال ذلك قوله: | أيفطمهُ التواربُ قبل فِطامهِ ويأكلهُ قبلَ البلوغِ إلى الأكلِ |
استعمال جموع ذات أوزان نادرة، كجمعه لملك أملاك، ومثال ذلك قوله: | يا أكرمَ الأكرمينَ يا ملكَ الأملاكِ طرا يا أصيدَ الصيدِ |
الإتيان بألف المثنى مع تأخير الفاعل، كقوله: | نَفْديكَ من سَيْلٍ إذا سُئِلَ النّدَى هَوْلٍ إذا اخْتَلَطا دَمٌ ومَسيحُ |
استخدام الحروف في عمل غير عملها، ومثال ذلك استعماله ليس على أنها حرف، كقوله: | بقائي شاءَ ليسَ هم ارتحالاً وحُسنَ الصبرِ زمْوا لا الجمالَ |
استعماله لاسم التفضيل في الألوان، كقوله: | إبْعَدْ بَعِدْتَ بَياضاً لا بَياضَ لَهُ لأنْتَ أسْوَدُ في عَيني مِنَ الظُّلَمِ |
السمات المعنوية في شعر المتنبي
تُعرّف الخصائص المعنوية بأنّها المضمون وما يحويه من أفكارٍ وخيالٍ، وما يقصده الشاعر من معانٍ يعبّر عنها بواسطة الألفاظ والصّيغ الأدبية، ومما لا شك فيه أنّ لكل عملٍ أدبيّ خصائصاً معنويةً خاصةً به. فيما يأتي أهم الخصائص المعنوية التي امتاز بها شعر المتنبي:
القوة والعظمة
اتسمت المعاني في شعر المتنبي بالقوة والعظمة، وظهرت هذه القوة أكثر ما ظهرت في شعر المدائح لا سيما في مدحه لنفسه مفتخراً بها، ومدحه لسيف الدولة، فقصائده في مدحه ووصفه لمعاركه تعتبر ملحميات تضاهي ملحميات عنترة بن شداد، وتعتبر القوة والشجاعة صفة يشترك بها كل ممدوحيه، فهو لا يصف أحداً إلا ويجعل القوة، والشجاعة، والإقدام، وما إلى ذلك من مثل عليا من أساسيات وصفه، إضافةً إلى تَغنّيهُ بأمجاده وبطولاته وانتصاراته في المعارك، وقد آمن المتنبي أنّ الشاعر يجب أن يدافع عن الوطن بالسيف والكلمة، وألا يكتفي بمدح الملوك.
كان أبو الطيب شاعر معركة، فجاءت نزعة القوة في شعره من قوة شخصيته وشجاعته، فقد قالوا فيه: “منذ أيامه الأولى في الشعر، كان المتنبي ذلك الصوت الذي يرفض الاستكانة، والخضوع، ويُحرض الإنسان على خوض المعركة من أجل كرامته وشرفه”، كما وقال الشريف الرضي واصفاً إياه: “إنّه قائد عسكر”، فالمتنبي كان فارساً يشارك في المعارك، ويتنقل بين ساحات الوغى، فلامه على ذلك أبي عبد الله بن اسماعيل اللاّذقي، وعلى اندفاعه وتعريض نفسه للمخاطر، فردّ عليه المتنبي بقصيدةٍ هذه بعض أبياتها:
أمِثْلي تأخُذُ النّكَباتُ مِنْهُ
وَيَجزَعُ مِنْ مُلاقاةِ الحِمامِ
ولو بَرَزَ الزّمانُ إليّ شَخصاً
لخَضّبَ شعرَ مَفرِقِهِ حُسامي
وما بَلَغَتْ مَشيئَتَها اللّيالي
ولا سَارَتْ وفي يَدِها زِمَامي
إذا امتَلأتْ عُيُونُ الخَيْلِ منيف
َوَيْلٌ في التّيَقّظِ والمَنَامِ
وفي التالي تُعرَض أبياتٌ قالها في مدح أبي الحسن محمد بن عبيد الله بن طعْج يصف شجاعته:
ولا يَتَلَقّى الحرْبَ إلاّ بمُهْجَةٍ
مُعَظَّمَةٍ مَذْخُورَةٍ للعَظائِمِ
وذي لجَبٍ لا ذو الجَناحِ أمَامَهُ
بنَاجٍ ولا الوَحشُ المُثارُ بسالِمِ
تَمُرّ عَلَيْهِ الشّمسُ وهْيَ ضَعيفَةٌ
تُطالِعُهُ من بَينِ رِيش القَشاعِمِ
إذا ضَوْؤُها لاقَى منَ الطّيرِ فُرْجَةً
تَدَوّرَ فَوْقَ البَيضِ مثلَ الدراهِمِ
الحكم والأمثال
استطاع المتنبي بلغته الخاصة التي ابتكرها أن يعبّر عن مكنونات نفسه، وعن الأحداث والمغامرات التي عاشها في حياته، بأسلوبٍ امتزج فيه العقل مع الشعور، فجاءت الصور الشعرية عنده ذات طاقةٍ إيحائيةً تعجُّ بالحياة، ودلالةٍ نفسيّة مرتبطةٍ بالموقف، فاتسمت ببناءٍ عُضويّ أصيلٍ لا مثيل له.
لعب الأثر النفسيّ في شعر المتنبي دوراً كبيراً في تَشكُّل الصور الشعرية في قصائده، ومثال ذلك نونيته التي قالها وهو في مصر بعد أن بلغه أنّ بعضهم قد شهّر به في مجلس سيف الدولة في حلب، فشعر بتشفّي الأعداء به، إضافةً إلى خيبة أمله في كافور، فصوّر في هذه القصيدة ألمه وحزنه على نفسه حيث تعثّر في بلوغِ غاياته وأمانيه، وعجِز عن النيل من أعدائه، فجاءت أبيات القصيدة حِكماً مستمدّةً من تجارب الشاعر في الحياة، وقد نالت هذه القصيدة أعجاب الأديب طه حسين لما اتسمت به من تصويرٍ غايةٍ في الدقةِ لمشاعر الألم والحزن التي سيطرت على المتنبي حين نظَمها مخاطباً نفسه بقوله:
بِمَ التَعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ
وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني
ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ
لا تَلقَ دَهرَكَ إِلّا غَيرَ مُكتَرِثٍ
مادامَ يَصحَبُ فيهِ روحَكَ البَدَنُ
فَما يَدومُ سُرورُ ما سُرِرتَ بِهِ
وَلا يَرُدُّ عَلَيكَ الفائِتَ الحَزَنُ
امتازت الصور الشعرية في شعر الحكمة عند المتنبي بخاصية التجسيد والتشخيص، أي القدرة على تحريك الصورة في حيزٍ زمنيٍ، وتجسيد الحدث في عدة مشاهد، وعرضه في مساحةٍ مكانيةٍ معينةٍ، ومن ذلك قوله:
عش عزيزاً أومُت وأنت كريمٌ
بين طَعْنِ القنا وخفْق البُنود
ومن الجدير بالذكر أنّ المتنبي استخدم في حكمه ألفاظاً وتراكيباً للمتصوفة والفلسفة، متأثراً بأبي علي الفارسيّ الذي كان معلماً له، وبصديقه ابن جنيّ، وبالفيلسوف أبي الفضل الذي التقى به في الكوفة، والفيلسوف الفارابي الذي التقى به في قصر سيف الدولة، ما جعله يجمع بين الشعر والفلسفة، مضيفاً إلى شعره العاطفة والخيال والتي هي من مقومات الفلسفة، وذلك كما رأى الأديب عباس محمود العقاد حيث ذكر في مقاله “فلسفة المتنبي”: “لا بد للفيلسوف الحق من نصيب من الخيال والعاطفة، ولكنه أقل من نصيب الشاعر، ولا بد للشاعر الحق من نصيب من الفكر، ولكنه أقل من نصيب الفيلسوف.”
ويشير العقاد إلى أنّ المتنبي لا يسلم بالحقائق بل “يرسلها إلى ذهنه ويكسوها ثيابًا من نسجه، ويغلب أن يوردها بعد ذلك مقرونة بأسبابها، معززة بحججها، على نمط لا يُفرّق بينه وبين أسلوب الفلاسفة في التدليل إلاّ طابع السليقة وحرارة العاطفة”، وذلك في قوله:
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومٍ
فلا تقّنع بما دونَ النجومِ
فطعمُ الموت في أمرٍ حقيرٍ
كطعمِ الموت في أمرٍ عظيمِ
وقوله:
إذا أتَتِ الإسَاءَةُ مِنْ لئيمٍ
وَلم ألُمِ المُسِيءَ فَمَنْ ألُومُ
المبالغة والغموض
يقصد بالمبالغة الزيادة في المعنى إلى حد الإفراط، ليصل إلى درجة لا يكاد يبلغها ويَصْعُب تصديقها، وقد ظهرت المبالغة في العصر العباسي نتيجة للانفتاح على العالم، واختلاط العرب بشعوب مختلفة، ما أدى إلى ظاهرة التجديد في الشعر العربي، ودخول مذاهب وآراء جديدة إليه. وقد كان المتنبي من أكثر شعراء العصر العباسي مبالغة، إذ امتلأ شعره كله في المبالغة لا سيما في المدائح، التي لا تكاد تخلو قصيدة منها من المبالغة، بل وتعتبر سمة اتسم بها شعره.
ومن الأمثلة على مبالغة المتنبي في مدائحه قوله في عضُدِ الدولة:
تَجَمّعَتْ في فُؤادِهِ هِمَمٌ
مِلْءُ فُؤادِ الزّمَانِ إحْداهَا
فإنْ أتَى حَظُّهَا بأزْمِنَةٍ
أوْسَعَ مِنْ ذا الزّمانِ أبْدَاها
إضافةً إلى المبالغة هناك ظاهرةٌ أخرى اكتنفت شعر المتنبي، ألا وهي الغموض الذي كان يتعمده أحياناً، ويضطر عليه أحياناً أخرى، وقد يكون السبب وراء لجوئه إلى الغموض، تأثره بأصحاب تيار الصنعة الشعرية الذي اشتهر في العصر العباسي، أمثال أبي تمام، ومسلم بن الوليد، حيث سار على دربهم في مذهبهم في بداياته الشعرية، وقد يكون السبب وراء هذا الغموض سعة خياله والمبالغة في التصوير، ومحاولته للرقي بشعره إلى مستوى رفيعٍ، أو قد يعزى إلى كثرة الإيجاز والمبالغة في أساليبه، وتمثل الغموض في مدائح المتنبي في مظاهر مختلفة، كاستعمال الألفاظ الوحشية، والتقديم والتأخير، والحذف والإبهام، واستعمال الألفاظ المشتركة، والمحسنات البديعية كالاستعارة، والتشبيه بطرقٍ مبتكرةٍ غريبةٍ ومعقدةٍ، ومن مظاهر الغموض عند المتنبي أيضاً -ما سبق وذكرنا- استعمالٍ الألفاظ الغريبة والتراكيب الشاذة، وبسبب توظيف المتنبي للغموض تعذّر تفسير شعره، بل واحتمل عدة تفسيرات، ما تسبب في اختلاف علماء اللغة في شرح كثيرٍ من الأبيات الشعرية، لمغالاتِهِ في إبهامها، شارحين معناها بطريقةٍ بعيدةٍ عن المعنى المقصود.
ويرى القاضي الجرجاني أن الغموض جزء من طبيعة الشعر، ومن خصائصه استخدام الخيال والمجاز، ويشير إلى أن المتنبي جنح للغموض بإرادته، إذ باستطاعته الإبانة على المعاني والدلالات، فعمد إلى مقارنته مع شعراء آخرين تميز شعرهم بالغموض، بقوله “لو كان التعقيد وغموض المعنى يسقطان شاعراً لوجب أن لا يُرى لأبي تمامٍ بيتٌ واحدٌ؛ فإنا لا نعلم له قصيدة تسلم من بيتٍ أو بيتين قد وفَر من التعقيد حظهما وأفسد به لفظهما.”
المنهج والعاطفة في شعر المتنبي
نهج المتنبي في بداياته الشعرية أسلوب شعراء الجاهلية من حيث الوقوف على الأطلال في مطلع القصائد، ووصف الناقة قبل الدخول في صلب القصيدة، مع الالتزام بوحدة الوزن والقافية، فقد كان هذا الأسلوب هو المتبع في العصر الذي عايشه المتنبي، إضافة إلى أسلوب المجددين الذين كانوا يدعون إلى التجديد في الشعر، غير أنّ المتنبي بعد أن امتلك زمام الشعر أوجد لنفسه أسلوباً خاصاً تَفرّد به، وتحرّر من بناء القصيدة الجاهلية ومن مقدماتها، فاستفتح قصائده بالحكمة بدلاً من الوقوف على أطلال الحبيبة أحياناً، وأحياناً أخرى استهلها بالمدح مباشرةً لا سيما في مدائحه لسيف الدولة، إذ يقول في قصيدةٍ مطلعها:
لكل امرىءٍ مِنْ دَهْرِهِ ما تَعَوّدَا
وعادَةُ سيفِ الدّوْلةِ الطعنُ في العدى
وقد ظهر في هذا الأسلوب قوة شخصيته، إذ كان لا يمدح أحداً إلا ومدح نفسه بِقدر مدحه له، وفي بعض الأحيان كان يبدأ القصيدة بالشعر الوجداني الغنائي مع شيء من السخرية، ومثال ذلك مدائحه لكافور الإخشيديّ، كما امتاز أسلوب المتنبي في قصائد المدح بمتانة البناء، وترابط النسيج، إلا أنه وفي بعض الأحيان كان يبني القصيدة على أكثر من غرض شعريّ، بالإضافة إلى ذلك ظهر في شعره قدرة فائقة على التصوير والوصف الدقيق للصفات، إلى جانب الإيقاع الموسيقي القوي، وكثرة استخدام التضاد، والإيجاز، وقوة الألفاظ والمعاني المتناسبة مع شخصيته القوية.
وبالنسبة للعاطفة في شعر المتنبي؛ فقد غلب على شعره عاطفة الألم الشديد التي تجلت في قصائد الشعر الوجداني الغنائي والتي تعدت العواطف الفردية، وتجاوزتها لتعبر عن معاناة الإنسانية، وقد اتسمت قصائده في مدح سيف الدولة الحمداني بالصدق بسبب حبه له، على عكس مدائحه بكافور الإخشيدي التي اتسمت بالبُهتان والتصنع بسبب بغضه له، كما وظهرت في قصائده عواطف أخرى مختلفة، كالحماسة، والغضب، وخيبة الأمل، والإعجاب بالفضائل والقيم العليا، أما عواطف العشق والهوى فقد كانت مقيدةً عنده، فلم يرتبط اسمه بحبيبةٍ كغيره من الشعراء الذين شغف قلوبهم الحب، وذلك بسبب انشغاله بهمومه، لا سيما همومه في طلب المجد والعلياء، الأمر الذي جعل عواطفه قويةً وثائرةً، ومثال ذلك قوله:
فاطْلُبِ العِزّ في لَظَى وَدَعِ الذّلّ
وَلَوْ كانَ في جِنانِ الخُلُودِ
ملامح العصر الذي عاش فيه المتنبي
يمثل الأدب مرآة تعكس صورة الحياة السياسية والاجتماعية، ويعتبر أدب المتنبي مثالاً حياً على ذلك، وصورةً بارزةً للحياة الفكرية والأدبية في عصره الذي عاش فيه، حيث عاش المتنبي في بدايات القرن الرابع الهجري في ظل الدولة العباسية، فعاصر تفكك الدولة وتقسيمها إلى عدة دويلات، وكانت بغداد مركزاً للخلافة العباسية، غير أنّ السلطة الحقيقية كانت في أيدي عدد من الوزراء وقادة الجيوش من أصول غير عربيةٍ، فسيطروا على البلاد والعباد، فتحركت الفتن الداخلية، وتعددت المذاهب وظهرت الثورات، مثل الثورة القرمطية التي انضم إليها الكثير من أهل البصرة والكوفة، بالإضافة إلى تعرّض البلاد إلى غزو الروم في الشمال، الذين تصدّى لهم الحمدانيون، بقيادة سيف الدولة الحمداني أمير حلب، ويجدر الذكر أنّ إمارته هي الإمارة الوحيدة التي ظلت تحت سيطرة العرب، بعد أن سيطر الأعاجم على باقي الدويلات، وقد عُرف الحمدانيّ بشجاعته وحنكته السياسية، وخلّد المتنبي انتصاراته في حروبه مع الروم، واعْتُبر شعره سِجلاً تاريخياً لكل أحداث هذه الحروب.
نتيجةً للأحوال السياسية المتردّية التي مرّ بها العصر العباسي، تأثّرت الحياة الاجتماعية، ونشأت في المجتمع عدّة طبقات، هي؛ الطبقة العليا متمثلةً بالخلفاء، والوزراءِ، وحاشيتهم، وطبقة الإقطاعيين متمثلةً بقادة الجند، وموظفي الدوواوين، وكبار التجار، والصناع، والطبقة الدنيا، وهي طبقة العامة، المتمثلة بالمزارعين، والحرفيين، والخدم، والعبيد، وكانت الطبقة الأولى والثانية تعيشان في القصور في رغدٍ من العيش، بينما الطبقة الثالثة كانت تكابد الفقر، والظلم، والاستبداد، ورغم هذا الاضطراب في الأحوال السياسية والاجتماعية في ذلك العصر إلا أنّ الحركة الفكرية كانت تشهد نشاطاً منقطع النظير، فقد تعددت الثقافات، وتنوّعت الفلسفات، نتيجةً لامتزاج العنصر العربي بغيره من العناصر الأجنبية الأخرى، ما أدى لامتزاج الثقافات، فظهرت حركة الترجمة، وامتزجت الحكمة اليونانية، والفارسية، والهندية بالحكمة عند العرب، وقد تأثر المتنبي بهذا الازدهار الفكريّ، لا سيما وهو يمتلك قدراً كبيراً من الذكاء، والفصاحةِ، والبلاغة، وقوة التعبير، فتفرّد عن سائر شعراء عصره بالحكمة والفلسفة التي امتلأ بها شعره.
المصادر
- حسين، و. (2006م). شعر الحكمة عند المتنبي بين النزعة العقلية والمتطلبات الفنية. الجزائر: جامعة الإخوة منتوري – قسنطينة.
- صامب، إ. (2005). الخصائص الفنية والمعنوية في مدائح أبي الطيب المتنبي. السنغال: جامعة شيخ أنت جوب بدكار.
- كاظم، ظ. م. (2013). دلالة النداء وأنماط استعماله في شعر المتنبي. العراق: جامعة بابل.
- جبر، أ. ش. (2013). الشعر العربي والفلسفة (الطبعة الأولى). عمان: دار الحامد.
- زامل، ص. (2003). تحول المثال، دراسة لظاهرة الاغتراب في شعر المتنبي. عمان: دار الفارس.
- بلووافي، ح. (n.d.). النقد اللغوي القديم عند العرب. بيروت-لبنان: دار الكتب العلمية.
- الجبوري، ر. (2014). التوظيف البلاغي للتجنيس والمشاكلة في شعر المتنبي. العراق: جامعة ديالي.
- أبو زيد، ر. (n.d.). وصف المتنبي لذاته.
- العقاد، ع. م. (n.d.). مطالعات في الكتب والحياة.
- غانم، ر. (2010). الآخر في شعر المتنبي. نابلس فلسطين: جامعة النجاح الوطنية.
- المجالي، ج. (2008). دراسات في الإبداع الفني في الشعر (الطبعة الأولى). عمان: دار يافا