التجويدات اللفظية في الآيات (1-5)
تتجلى الروعة البلاغية للقرآن الكريم في استخدام أساليب متنوعة لإيصال المعنى وتأثير القارئ. ومن الأمثلة على ذلك، الزخارف اللفظية في أوائل سورة البقرة، والتي تضفي جمالًا على النص وتزيد من تأثيره.
قال تعالى:
الم ( 1 ) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ( 2 ) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( 3 ) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( 4 ) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 5 )
.
نجد في هذه الآيات الكريمة ما يعرف بـ:
- الفاصلة القرآنية (السجع): وهي عبارة عن توافق أواخر الكلمات في الآيات، مثل: (يُنفِقُونَ)، و (يُوقِنُونَ)، و (الْمُفْلِحُونَ). هذا التوافق الصوتي يعطي للنص جرساً موسيقياً محبباً للأذن، ويسهل حفظه وتذكره.
أوجه التحسين البديعي في الآيات (6-10)
تستمر سورة البقرة في عرض صور بلاغية بديعة، تكشف عن فصاحة القرآن الكريم وقدرته على التأثير في النفوس.
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( 6 ) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 7 ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ( 8 ) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ( 9 ) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ( 10 )
.
وتشتمل هذه الآيات على الزخارف البلاغية التالية:
- الطباق السلبي: يظهر في قوله تعالى: (أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ)، حيث يجمع بين الفعل وإثباته ونفيه، مما يزيد المعنى وضوحًا وقوة.
- رد العجز على الصدر (التصدير): يتجلى في قوله تعالى: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ)، حيث تتكرر كلمة “مؤمنين” في بداية ونهاية العبارة، مما يخلق ترابطًا لفظيًا ومعنويًا.
- رد العجز على الصدر (التصدير): يظهر أيضًا في قوله تعالى: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً)، حيث تتكرر كلمة “مرض” في بداية ونهاية العبارة، مما يؤكد على تفاقم المرض الروحي لديهم.
التحسينات اللفظية في الآيات (11-15)
تواصل الآيات الكريمة الكشف عن أساليب بلاغية متقنة، تهدف إلى إيصال الرسالة بأقوى صورة وأبلغ بيان.
قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ( 11 ) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ( 12 ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ ( 13 ) وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ ( 14 ) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 15 )
.
تتضمن هذه الآيات ما يلي:
- الطباق الإيجابي: يظهر في قوله تعالى: (مُصْلِحُونَ) و (الْمُفْسِدُونَ)، حيث يجمع بين الكلمة وضدها، مما يبرز التناقض في سلوكهم وادعائهم.
الجماليات البلاغية في الآيات (16-20)
تستعرض الآيات الكريمة صوراً فنية رائعة، تجسد حال المنافقين وتبين ضلالهم.
قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ( 16 ) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ( 17 ) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ( 18 ) أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ( 19 ) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20 )
.
تشمل هذه الآيات المحسنات التالية:
- الطباق الإيجابي: يظهر في قوله تعالى: (الضَّلالَةَ) و (بِالْهُدَى)، حيث يبرز التضاد بينهما قيمة الهداية وأثر الضلالة.
- رد العجز على الصدر (التصدير): يتجلى في قوله تعالى: (اشْتَرُوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ)، حيث تتكرر فكرة عدم الاهتداء في بداية ونهاية العبارة، مما يؤكد على خسارتهم الفادحة.
- المقابلة: في قوله تعالى:(أَضَاء لَهُم) و (أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ)، حيث يتم الجمع بين معنيين متقابلين لإبراز حالة التذبذب التي يعيشونها.
التزيينات البديعية في الآيات (21-25)
تختتم هذه المجموعة من الآيات بعرض جوانب أخرى من الجمال البلاغي، تأسر القلوب وتدعو إلى التفكر.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 21 ) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( 22 ) وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ( 23 )فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( 24 ) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25 )
.
وتتضمن هذه الآيات ما يلي:
- جناس ناقص (غير تام): في قوله تعالى: (السَّمَاء) و (مَاء)، حيث تتشابه الكلمتان في معظم الحروف وتختلفان في حرف واحد، مما يخلق تجانساً صوتياً لطيفاً.
- رد العجز على الصدر (التصدير): في قوله تعالى: (رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا)، حيث تتكرر كلمة “رزق” في بداية ونهاية العبارة، مما يؤكد على فضل الله ونعمته عليهم.
إن هذه الزخارف البلاغية، التي وردت في أوائل سورة البقرة، هي جزء من الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم، الذي يتحدى الفصحاء والبلغاء أن يأتوا بمثله.