الأصل في الأمور هو الإباحة
اتفق جمهور الفقهاء على أن الأحكام الشرعية تستلزم وجود دليل من مصادر التشريع الإسلامي حتى يتم اعتبارها ضمن الأوامر أو النواهي، وتحديد مراتبها. بناءً على ذلك، الأصل في تصرفات المسلم هو الإباحة ما لم يرد نص شرعي يخالف ذلك. قضية الاستماع إلى الأغاني، سواء كانت مصحوبة بآلات موسيقية أو بدونها، تحتاج إلى دراسة وتوضيح. لقد تناول الفقهاء هذه المسألة الفقهية بالتفصيل في الماضي والحاضر، نظراً لتشعب جوانب هذا الأمر. تتعدد أركانه وظروفه المحيطة به. لذلك، نجد أن الحكم قد يكون بالإباحة في حالة معينة، وبالمنع في حالة أخرى، حيث يتغير الحكم تبعاً للظروف. ومع ذلك، يتفق غالبية العلماء على الأسس الرئيسية للمسألة. يثير الكثيرون تساؤلاً حول حكم الاستماع إلى الأغاني الخالية من الموسيقى، وهل هو جائز أم ممنوع، وما هي الضوابط التي تحكم ذلك؟
توضيح مفهوم الغناء
يختلف معنى الغناء في اللغة عن معناه الاصطلاحي. فيما يلي توضيح لذلك:
- الغناء في اللغة العربية: يشمل كل كلام موزون أو غير موزون، يتم التعبير عنه باللحن والتطريب، سواء كان مصحوباً بآلة عزف أو لا.
عادة ما تثير الأشعار أو الكلمات الملحنة المشاعر والأحاسيس، مثل تهويدة الأم لطفلها أو أغاني الإبل التي تحفزها على المشي، أو أناشيد الأفراح. - مصطلحات مرتبطة بالغناء: هناك العديد من المصطلحات المرتبطة بالغناء، مثل الحداء والنصب والطرب والإنشاد. الحداء هو غناء خاص بالإبل، والنصب هو إنشاد بين الحداء والغناء، والطرب هو ما يصاحبه اهتزاز وحركة، أما الإنشاد فهو تحسين الصوت بالأشعار.
الفتوى في سماع الأغاني التي لا تحتوي على موسيقى
من المعروف أن أنواع الغناء متعددة، وحكمها مرتبط بظروف كل نوع. وفيما يلي توضيح لذلك:
- الغناء المصحوب بآلات العزف: أيّاً كان نوعها، فهو محرم بالإجماع باستثناء الدف، فقد أجازه بعض العلماء، بشرط أن تكون كلمات الغناء المصاحبة للدّف مشروعة. وقد اقتصر البعض إباحة الدّف على النساء بضوابط معينة.
- الغناء غير المصحوب بآلات عزف أو موسيقى: الكلام فيه على وجوه:
- غناء المرأة أمام الرجال: يحرم غناء المرأة بصوت مسموع للرجال قياساً على حرمة رفع صوتها بالأذان أو تلاوة القرآن الكريم. فمن باب أولى منعها من رفع صوتها بالغناء أمام الرجال، حتى لو كانت كلماته مشروعة.
- غناء المرأة أمام النساء: يجوز للمرأة أن تغني أمام النساء بكلام حسن ليس فيه فحش أو فجور أو دعوة إلى رذيلة أو حرام.
- غناء الرجل: أباحه بعض العلماء وكرهه آخرون، ولكن إذا كانت كلمات الغناء تقع ضمن الكلام المباح أو الذي فيه دعوة إلى فضيلة، جاز ذلك قياساً على الشعر، فقد كان يُلقى بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكر على من فعله. بل ثبت أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- أمر حسان بن ثابت -رضي الله عنه- بقول الشعر، ثم إن كعباً -رضي الله عنه- أنشد شعراً أمام النبي -عليه الصلاة والسلام- ذات يوم وابتدأه على عادة العرب في شعرها بالغزل، وكان غزلاً عفيفاً طاهراً ولم ينكر الرسول ما أنشده كعب.
أكد أهل العلم على أنه لا ينبغي الإفراط في الشعر والحداء بشكل مبالغ فيه.
مما لا شك فيه أن الغناء الذي يتضمن كلمات قبيحة أو دعوة إلى فساد أو معصية، كوصف النساء أو الترغيب في شرب الخمر، فهو محرم.
إذا صاحب الغناء المباح محرمات أخرى، مثل مجالس الاختلاط وشرب الخمور، فإنه يحرم بسبب تلك المحرمات. ويؤكد ذلك حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: (ليشرَبنَّ ناسٌ من أمَّتي الخمرَ يُسمُّونَها بغيرِ اسمِها، يُعزَفُ علَى ؤوسِهِم بالمعازفِ، والمغنِّياتِ، يخسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الأرضَ، ويجعَلُ منهمُ القِرَدةَ والخَنازيرَ).
أجاز العلماء للمرأة أن تنشد كلمات مباحة بلحن وترنيم بحضور محارمها، شريطة ألا يكون ذلك سبباً في الإلهاء عن ذكر الله تعالى وإقامة الصلاة.
الراجح عند أهل العلم أن ما يعرف اليوم بالأناشيد الدينية، والمصنفة عند العلماء بالسماع، مشروعة إذا كانت كلماتها تحث على الخير. وقد فصل الإمام الشاطبي في هذه المسألة في كتابه الاعتصام، وبين صوراً من تلك الإنشادات المشروعة، مثل: الدفاع عن الإسلام وأهله، وطلب الحاجات بالإنشاد الشعري والتشفع عند كبراء القوم، ومنه ما يقال لشحذ الهمم للجهاد وبذل النفس في سبيل الله، وكذلك ما ينشد لوعظ النفس ودعوتها للاستقامة على أمر الله تعالى.
لكنه عقب تعقيباً مهماً للتمييز بين ما ألف من الإنشاد المشروع في العصر الأول وما آل إليه الحال بعدهم؛ فقال: (لكنّ العرب لم يكن لها من تَحسين النغمات ما يجري مجرى ما الناس عليه اليوم، بل كانوا يُنشدون الشِّعر مطلقًا من غير أن يتعلّموا هذه الترجيعات التي حدثت بعدهم، بل كانوا يُرقّقون الصوت ويمطّطونه على وجه لا يليق أميّة العرب الذين لم يعرفوا صنائع الموسيقى، فلم يكن فيه إلذاذ ولا إطرابٌ يُلهي، وإنّما كان لهم شيء من النشاط؛ كما كان الحبشة وعبد الله بن رواحة يحدوان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما كان الأنصار يقولون عند حفر الخندق: نحن الذين بايعوا محمّداً على الجهاد ما حيينا أبداً، فيُجيبهم صلى الله عليه وسلم بقوله: اللهم لا خير إِلّا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة).
تجدر الإشارة إلى أن الأغاني الشائعة اليوم في حياة الناس محرمة؛ لأنها تقوم على كثير من المخالفات الشرعية من حيث مرافقة آلات العزف للكلام الفاحش، ومن حيث مجالسها التي يكثر فيها الاختلاط والسفور والتبرج.
المصادر
- مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط.
- أبتنوح القضاة (30-7-2012)، “حكم الغناء والموسيقى”، www.aliftaa.jo.
- محمد الجريتلي (24-10-2009)، “المعازف وما يتعلق بها من أحكام”، www.alukah.net.
- أبو فيصل البدراني، حكم الغناء والمعازف وآلات الملاهي والمؤثرات الصوتية.
- رواه الألباني، في صحيح ابن ماجة، عن أبي مالك الأشعري، الصفحة أو الرقم: 3263، صحيح.
- فتاوى شرعية، “حكم الغناء: بين المانعين والمجيزين”، www.islamonline.net.
- مركز الفتوى (7-2-2018)، “حكم غناء الفتاة أمام أخواتها”، www.islamweb.net.
- إبراهيم الشاطبي (1992)، الاعتصام (الطبعة الأولى)، المملكة العربية السعودية: دار ابن عفان.