مقدمة في الحمد والثناء
الحمد لله حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، يملأ أرجاء السماوات والأرض وما بينهما، حمدًا نستديم به النعم وندفع به النقم، فهو أهل الثناء والمجد، وأحق ما قاله العبد، وكلنا له عبيد، اللهم لا راد لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد. نحمدك بجميع المحامد التي علمناها والتي لم نعلمها، سبحانك ربنا لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. وأزكى صلوات الله وتسليماته على خير خلقه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، خير من شكر وأفضل من عبد.
دعوة للتمسك بالتقوى
أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، والعمل بطاعته، واجتناب نواهيه، والمداومة على حمده وشكره في كل حال، اتقوا الله حق التقوى، واعلموا أن الله مطلع على سرائركم وأعمالكم. امتثلوا لأمره تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر: 18].
الخطبة الأولى: أهمية الشكر ومكانته
أيها الإخوة الكرام، حديثنا اليوم يدور حول الشكر، تلك الصفة العظيمة التي تبين منزلتها ابن القيم رحمه الله في كتابه “مدارج السالكين” موضحًا أنها من أرفع المقامات، بل هي نصف الإيمان، فالإيمان شطران: شطر صبر، وشطر شكر. ويكفي الشكر فخرًا أن الله عز وجل سمى نفسه شاكرًا وشكورًا، وهذا دليل على عظم هذه الصفة وأثرها.
لقد بين الله تعالى لنا في كتابه العزيز فضل الشكر في مواضع متعددة، ووصف بها أنبياءه الكرام عليهم الصلاة والسلام، فقال عن أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام:
﴿إِنَّ إِبراهيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّـهِ حَنيفًا وَلَم يَكُ مِنَ المُشرِكينَ* شاكِرًا لِأَنعُمِهِ اجتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍ﴾ [النحل: 120-121].
وقال عن نوح عليه السلام:
﴿إِنَّهُ كانَ عَبدًا شَكورًا﴾ [الإسراء: 3].
وفي مدحه للشاكرين، قال سبحانه وتعالى:
﴿وَسَيَجْزِي اللَّـهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 144].
وقال جل وعلا:
﴿إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكورٍ﴾ [إبراهيم: 5].
وأمرنا بالشكر قائلاً:
﴿وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [العنكبوت: 17].
كما وعد الشاكرين بالزيادة، وتوعد الجاحدين بالعذاب الشديد:
﴿وَإِذ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرتُم لَأَزيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذابي لَشَديدٌ﴾ [إبراهيم: 7].
أيها المؤمنون، سنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم كانت تجسيدًا عمليًا لشكر الله تعالى، فـ
(قَامَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- حتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فقِيلَ له: غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ، قالَ: أفلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا).
وأوصى معاذ بن جبل رضي الله عنه قائلاً:
(يا معاذُ إني لأحبُّك، أوصيكَ يا معاذُ لا تدعهنَّ دبُرَ كلِّ صلاةٍ تقولُ: اللهمَّ أعنِّي على ذكرِك وشكرِك وحسنِ عبادتِك).
وللشكر أوجه ينبغي للمرء أن يحيط بها، أولها: محبة المنعم سبحانه وتعالى، فمن الطبيعي أن يحب الإنسان من أسدى إليه معروفًا، فكيف بمن يغمرنا بالنعم التي لا تعد ولا تحصى؟ وثانيها: الثناء عليه بما هو أهله، وهذه النتيجة الطبيعية لرد العطاء.
وثالثها: الخضوع له، بالامتثال لأوامره واجتناب نواهيه، والإقرار بعظمته وضعفنا أمامه، ومن الخضوع له الاعتراف بالعجز عن شكره على الوجه الأكمل، كما قال داوود عليه السلام:
“يا رب! كيف أشكرك والشكر نفسه نعمة رزقتني إياها، فيجب أن أشكرك عليها؟ قال: يا داود! الآن شكرتني.”
أما رابع هذه الأوجه فهو: عدم استعمال النعم في معصيته، فلا تستخدم العين في النظر إلى الحرام، ولا القوة في ظلم الضعفاء، ولا المال في اقتناء المحرمات، بل وظف كل نعمة في طاعته، فأنفق من مالك على المحتاجين، واستخدم قوتك في نصرة المظلومين، واستعمل جاهك في الشفاعة بالحق.
عباد الله، للشكر فوائد جليلة وثمرات عظيمة:
- إقرار بالمنعم والنعمة.
- سبب لحفظ النعمة وزيادتها.
- استحقاق رضا الرب ومحبته.
- قرب من الناس ومحبة في قلوبهم.
- دليل على سمو النفس ورجاحة العقل.
- راحة البال وطمأنينة القلب.
الخطبة الثانية: جوانب الشكر وثماره
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد، أيها الإخوة الكرام، إن الشكر من أسمى مقامات العابدين، وهو نصف الإيمان، وقد أثنى عليه ربنا في كتابه العزيز، وأثنى على المتصفين به من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم بإحسان، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في مقدمتهم.
أيها الفضلاء، للشكر جوانب عديدة، منها: محبة الله تعالى، والثناء عليه، والخضوع له، وتجنب استعمال نعمه فيما يغضبه، وله ثمرات، منها: تحقيق العبودية بالاعتراف بأن الله هو المتفضل بالنعم، والحفاظ على النعم من الزوال، وفتح باب الزيادة، واكتساب محبة الله، وطمأنينة النفس والسلامة من الحسد.
أيها الأحبة، تذكروا وصية نبيكم صلى الله عليه وسلم التي نقلها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
(أَحِبُّوا اللهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ).
وحاولوا دائمًا تذكر نعم الله عليكم، وحتى تستشعروا النعم، تفكروا فيما تملكون مما يفتقده الآخرون، كأن تكونوا أصحاء مقابل المرضى، أو لديكم أبناء مقارنة بمن حرموا، وهكذا، وتذكروا أنكم لن تستطيعوا إحصاء نعمة واحدة، فكيف بكل النعم.
الدعاء والتضرع
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن.
لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضا.
اللهم لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد.
اللهم اجعلنا من عبادك الشاكرين واجعلنا من عبادك الذاكرين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم ما بنا من نعمة فمنك وحدك، فلك الحمد حمدا طيبا كثيرا.
وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
المصادر والمراجع
- سورة الحشر، آية:18
- ابن القيم (1996)، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (الطبعة 3)، بيروت: دار الكتاب العربي ، صفحة 332-333، جزء 2.
- سورة النحل، آية:120-121
- سورة الإسراء، آية:3
- سورة آل عمران، آية:144
- سورة ابراهيم، آية:5
- سورة العنكبوت، آية:17
- سورة ابراهيم، آية:7
- رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن المغيرة بن شعبة، الصفحة أو الرقم:4836، صحيح.
- رواه ابن خزيمة، في صحيح ابن خزيمة، عن معاذ بن جبل، الصفحة أو الرقم:751، صحيح.
- عبد الكافي، دروس الدكتور عمر عبد الكافي، صفحة 3-6، جزء 11.
- مجموعة من المؤلف، نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (الطبعة 4)، جدة: دار الوسيلة للنشر والتوزيع، صفحة 419، جزء 6.
- رواه الحاكم، في المستدرك، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم:4741، صحيح.