المحتويات
تمهيد: الأم أساس الحياة
لطالما داعبت مخيلتي ترانيم الطفولة، بينما كانت أمي تهدهدني في مهدي لأخلد إلى النوم. لم تكن تفعل ذلك لتتخلص من بكائي وإزعاجي، بل لكي أنعم بالراحة بعد ليلة طويلة من الحمى الشديدة التي ألمت بي. قد لا أتذكر تلك اللحظات بوضوح، لكنها محفورة في ذاكرتي بفضل حكايات جدتي وخالاتي، اللواتي كن امتدادًا لحنان أمي. لطالما حملنني وهدهدنني حتى أغفو، بينما كانت أمي منهمكة في شؤون الحياة التي لا تنتهي. لم تتركنني إلا في أحضانٍ تشبه حضنها الدافئ. ألم تحبني جدتي كما أحبتني أمي؟ فالحب يتفرع من الجدة إلى بناتها، ويتجلى بكل أشكاله وصوره.
صلب الموضوع: أمي مثالٌ يُحتذى وإلهامٌ لا ينضب
شهور حملكِ بي كانت طويلة وشاقة، مليئة بالآلام والغثيان في كل صباح. وعندما حان المخاض، انتظرتِ قدوم أبي بصبر نافذ. تجمع إخوتي حولكِ خائفين من ملامح وجهكِ المتغيرة، فهم لم يعتادوا عليها. لكنكِ في تلك اللحظات علمتهم درسًا في الصبر على الألم. رغم صغر سنهم، وجدوا في وجهكِ صلابةً لم يعرفوها من قبل، وفي نبرة صوتكِ قوةً لن ينسوها أبدًا. بالرغم من الألم، كنتِ تبتسمين مودعةً إياهم عند جدتي حتى تعودي إليهم سالمة. وعدتِ يا أمي، وعلى وجهكِ ابتسامة مشرقة، وبين يديكِ طفلة بيضاء نحيلة.
أعلم يا أمي أنكِ تزوجتِ صغيرة، ولم تري في الحياة إلا فستانًا أبيض، ولم تعرفي شيئًا عن صعاب الحياة. كان حملكِ بي متعبًا، فجسدكِ النحيل لم يكن يقوى على تحمل أعباء إضافية، بالإضافة إلى المسؤوليات الثقيلة التي أثقلت كاهلكِ، والواجبات اليومية، والوقوف لساعات لتحضير ما يسد رمقنا أنا وإخوتي وأبي، حين يعود حاملًا معه كل ما يسعدنا. لا أنسى يا أمي عندما جاء أبي يحمل تلفازًا لم يأتِ بمثله أحد في الحي قبلنا. أذكر يا أمي كم كنا سعداء نلعب حول أبي فرحين بالضيف الجديد.
مر أسبوع على ولادتي، وأمركِ الطبيب باتباع تعليمات معينة لزيادة وزني، حيث ولدت نحيلة وضعيفة للغاية، حتى أن حجم كف يدي كان بحجم إصبع الإبهام في يدكِ. زارني الطبيب بعد أسبوع وأخبركِ أنه يخشى عليّ الهلاك إن لم تتحسن صحتي خلال أسبوع آخر أو شهر على الأكثر. جزعتِ وكدتِ تسقطين أرضًا، لكن وجود أطفال آخرين دفعكِ بقوة نحو السماء. لم يكن من المعقول أن تنهاري عند أول اختبار لكِ. فصبر جميل والله المستعان على ما تصف أيها الطبيب. أعطاكِ الطبيب بعض الأدوية والعلاجات والمحاليل المغذية، علها تكون فرصة للنجاة وأملًا في الحياة.
وصلتِ إلى المنزل ونظرتِ إلينا بابتسامة حانية تخفي وراءها الكثير. لم نكن نعلم، لكن الله يعلم ما كنتِ تمرّين به يا أمي. دخلتِ غرفتكِ بحجة تغيير ملابسكِ، وما هي إلا لحظات حتى سمعنا شهقات متتالية تأتي من الداخل. انتظرنا في الخارج علّكِ تفتحين الباب أو حتى يعود أبي ونفهم الخبر. خرجتِ من الغرفة والابتسامة تعلو محياكِ وآثار الدموع في مقلتيكِ، لكن ابتسامة عريضة ملأت وجهكِ. أكان ما سمعناه من شهقات خيالًا أم ماذا؟ وصل أبي إلى المنزل وبدأ الهمس بينكما، فتهدأين تارة وتتحدثين تارة أخرى، وكلما نظرتِ إلينا ابتسمتِ ابتسامة جميلة تشعرنا أن أمان الدنيا كله في عينيكِ.
ذهبتِ لتستريحي، واجتمع إخوتي حول والدي وسألوه بصوت واحد: ما بال أمي؟ أهناك خطب؟ أطرق أبي رأسه قليلًا وتحدث وكله أسى بأمر لم يخطر على بال أحد من إخوتي في المنزل، فأخبرهم أنني ضعيفة وقد لا أعيش، وينبغي إيلائي الكثير من الرعاية حتى أصبح قوية. صُعقنا جميعًا ليس للخبر فحسب، وإنما لقوة وصلابة أمي ومحاولتها قدر الإمكان التماسك أمام إخوتي كي لا يشعروا بالحزن والأسى على أختهم التي انتظروها طويلًا، لا سيما أنهم يعرفون كم تعبت أمهم في أثناء فترة الحمل والولادة.
لم يتوقف إخوتي وأمي وأبي عن الدعاء، علّ الله ينجيني ويفرح أمي ويفك كربة أبي. جاء موعد زيارة الطبيب فذهبوا جميعًا يحدوهم أمل أن يسمعوا الأخبار الطيبة بشأن أختهم العزيزة. بدأ الطبيب يجري فحوصاته، ينظر مرة في عيني وفي فمي مرة، وأخرى يتفحص جلدي ويقيس وزني. انتهى الطبيب من عمله وجلس في مقعده، وبدأت أمي تلبسني ثيابي ويدها ترتجف وقلبها تدوي نبضاته كالرعد. تناول الطبيب قصاصة ورق صغيرة وبدأ يكتب، وما إن انتهى حتى قال لأمي: هي بعض الفيتامينات وسيكون كل شيء على ما يرام. تجاوزت الطفلة الغالية الخطر وبدأت تعود للحياة مرة أخرى، ستُشعرنا جميعًا بالسعادة لأول مرة منذ علمنا بالخبر.
كبرنا وإخوتي وأصبحنا كالزهور. مرض أبي مرضًا عضالًا، تعب كثيرًا حتى أُنهكت كليتاه. سافر لإجراء بعض العمليات الجراحية، لكن تعددت الأسباب والموت واحد. توفي والدي، وقد استقبلت أمّي الخبر بصبر وثبات، لم تصرخ ولم يعلُ صوتها شأن معظم النساء، فقد صبرت واحتسبت أجرها عند الله. أمي لم تزل صغيرة على ذلك الشقاء، فقد أصبحت تتولى مهامًا إضافية غير تلك التي كانت تحتملها في أثناء وجود أبي، إذ أصبحت الآن أبًا وأمًا في آن واحد، كما أصبحت صديقة لي وإخوتي جميعّا، تتابع دروسنا وتهيئنا لاستقبال العيد بملابس بسيطة رخيصة الثمن، لكن قيمتها المعنوية كبيرة فقد نُسجت من دموع أمي وصبرها.
تذييل: كيف نرد ولو جزءًا من جميلك يا أمي؟
لا أعلم كيف أشكركِ يا أمي، فأنتِ خير مثال للتضحية والصبر وتحمل المشقة. هل هناك كلمات شكر تكفي يا أمي؟ وهل هناك ما يكفي من صفحات بيضاء لأملأها بعبارات الشكر والعرفان لكل ما قدمته لنا من عطف وحب وحنان وشعور بالأمان؟ أحبكِ يا أمي، ولا تكفيكِ عبارات الكون كله بكل اللغات، وليس في جعبتي لكِ سوى الدعاء الوفير أن يحفظكِ الله ويطيل عمركِ ويجعلكِ من أهل الجنة جزاء ما صبرتِ؛ فقد كبر إخوتي وكبرتُ أنا، لكنّ قلوبنا أطفال تهفو إليكِ.