جدول المحتويات:
الأسس الفقهية لمنع الضرر
تعالج الشريعة الإسلامية مسألة إلحاق الأذى بالآخرين بضوابط وأحكام واضحة، مستندة إلى قواعد فقهية راسخة. من أهم هذه القواعد قاعدة “لا ضرر ولا ضرار”. فالضرر يعني إيصال الشر والأذى إلى شخص آخر، أما الضرار فهو مقابلة الأذى بالأذى. هذه القاعدة تؤكد على حرمة إلحاق الضرر بالآخرين، سواء كان ذلك ابتداءً أو كرد فعل على ضرر سابق.
تتداخل هذه القاعدة مع العديد من الأحكام الفقهية المختلفة، سواء في المعاملات مثل البيع والشراء، أو في العبادات، وحتى في تطبيق الحدود والعقوبات. على سبيل المثال، نجد في القرآن الكريم نهياً صريحاً عن إلحاق الأذى بالوالدين بالأبناء أو العكس، وذلك في قوله تعالى: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ…).[البقرة: 233] ومثال آخر هو أن يقوم البائع بإخفاء عيب في السلعة عن المشتري.
الحكم الشرعي في إلحاق الأذى بالغير
من الضروري التمييز بين نوعين من الضرر: الضرر بحق، والضرر بغير حق. الضرر بغير حق هو الاعتداء على حقوق الآخرين، سواء كانت أموالاً، أو أعراضاً، أو أي حقوق أخرى. هذا النوع من الضرر محرم شرعاً. أما الضرر بحق، فيشمل العقوبات والحدود التي يفرضها ولي الأمر على مرتكبي الجرائم والتعديات، وهذا النوع جائز شرعاً.
العبارة “لا ضرر ولا ضرار” تحمل معنى النهي والتحريم. ويتضح من هذه القاعدة أن تحريم إلحاق الأذى بالآخرين يخدم مصلحة المجتمع بأكمله، وأن مقابلة الضرر بالضرر أمر محرم أيضاً. كما أن هناك قاعدة فقهية أخرى تنص على أن “الضرر يزال”، وتتفرع منها قاعدة أخرى وهي “الضرر يزال ولكن لا بالضرر”، مما يؤكد على وجوب إزالة الضرر وعدم جواز التسبب في ضرر جديد.
نماذج من الأفعال المحرمة التي تتسبب في الضرر
هناك العديد من الأمثلة التي وردت في النصوص الشرعية والتي قام الفقهاء بتفسيرها وتوضيحها، ومن بين هذه الأمثلة:
- تحريم إرجاع الزوجة بعد الطلاق إذا كان القصد من الإرجاع هو إلحاق الأذى بها، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا).[البقرة: 232]
- تحريم الوصية بقصد الإضرار بالورثة أو الدائنين.
- تحريم طلاق الرجل المريض لزوجته في فترة مرضه بغرض حرمانها من الميراث.
- سفر الزوج بزوجته بدون حاجة حقيقية، إذا كان القصد من السفر هو إلحاق الضرر بها.
- رفع الدعاوى القضائية بهدف التشهير بالأشخاص الفاضلين دون وجه حق.
حق الملكية وعلاقته بمنع الأذى في الشريعة
قد يعتقد البعض أن حق الملكية هو حق مطلق، وأنه يحق للمالك أن يتصرف في ملكه كيفما يشاء دون النظر إلى ما قد يترتب على ذلك من ضرر للآخرين. ولكن الفقه الإسلامي يناقش هذه المسألة بتفصيل:
- إذا كان الضرر مؤكداً: بمعنى أنه إذا تصرف المالك في ملكه بطريقة معينة، فإن الضرر سيقع على الآخرين بشكل حتمي، ففي هذه الحالة، إذا كان بإمكان المالك أن يتصرف في ملكه بطريقة أخرى لا تلحق الضرر بالآخرين، فإنه يحرم عليه التصرف الذي يسبب الضرر. وذلك لأن دفع الضرر العام مقدم على جلب المنفعة الخاصة.
- إذا كان الضرر غالباً: حكمه يلحق بالحالة السابقة.
- الضرر الكثير غير الغالب: وهو أن يترتب على الفعل ضرر كبير في ذاته، ولكن لا يغلب على الظن وقوعه. هنا، تختلف آراء الفقهاء، فالمالكية والحنابلة يرون أن قاعدة (دفع المضار مقدم على جلب المصالح) تقتضي منع الفعل، بينما يرى الحنفية والشافعية أن الفعل مشروع في أصله، واحتمال الضرر لا يكفي لمنعه.
- الضرر القليل: وهو أن يتصرف المالك في ملكه بطريقة قد تتسبب في ضرر نادر الحدوث. في هذه الحالة، لا بأس بالتصرف، لأن الأصل هو ثبوت الحق، ولا يعدل عنه إلا بسبب الضرر الكبير.
المراجع
- محمد حسن عبد الغفار، كتاب القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه.
- عبد الرحمن بن صالح العبد اللطيف، كتاب القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير.
- مجموعة من المؤلفين، مجلة مجمع الفقه الإسلامي.