استيعاب وتأويل قوله تعالى: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)

تحليل وتفسير لآية (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع). دلالات كلمة (فانكحوا) وشرح المعنى الإجمالي للآية، بالإضافة إلى علاقتها باليتيمات وخلفية نزولها.

مقدمة

تعتبر هذه المقالة استكشافًا للآية الثالثة من سورة النساء، حيث يقول الله -عز وجل-:(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا). وقد سميت هذه السورة بسورة النساء نظراً لما تحتويه من أحكام مفصلة تختص بالمرأة، سواء كانت متعلقة بالزواج أو الميراث أو غيرها من الحقوق.

تدقيق في تفسير الآية الكريمة

تهدف هذه الفقرة إلى تقديم فهم شامل لهذه الآية، مع التركيز على معاني الكلمات وسياقها القرآني، واستعراض أقوال المفسرين.

دلالات لفظ (فَانكِحُوا)

كلمة (فَانكِحُوا) هي فعل أمر يفيد الإباحة والجواز. وعند الرجوع إلى أصول الكلمة، نجد أن النكاح في اللغة يحمل معنيين أساسيين: الوطء والعقد. فقد جاء في القاموس المحيط أن النكاح يعني “الوطء والعقد له”. وفي المعجم الوسيط، ورد أن “نكحت المرأة” تعني تزوجت، وأن “أنكح المرأة” تعني زوجها. و”استنكح المرأة” أي طلبها للزواج. وقوله تعالى:(فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ) يشير إلى إباحة الزواج بالنساء اللاتي يحل الزواج بهن، وفقًا للشروط والأحكام الشرعية. وقد ذكر مجاهد أن المقصود هو “فانكحوا النساء نكاحا طيباً”؛ أي القصد على هذا القول الفعل وليس النساء.

المفهوم العام للآية

تشير الآية الكريمة إلى توجيه إلهي للمسلمين الذين يتولون رعاية الأيتام. فإذا كان أحد هؤلاء الأوصياء يرغب في الزواج من يتيمة تحت رعايته، ولكنه يخشى من أن يظلمها أو يأكل مالها، فإنه يُنصح بالعدول عن هذا الزواج والبحث عن زوجة أخرى من غير اليتيمات. فقد أباح الله -سبحانه وتعالى- لهم الزواج بغيرهن من النساء مثنى وثلاث ورباع. أي يمكن للرجل أن يتزوج بواحدة، وإذا رغب في الزواج مرة أخرى، فله أن يتزوج باثنتين أو ثلاث أو أربع، مع مراعاة الضوابط والشروط الشرعية. وقد حدد الإسلام عدد الزوجات بأربع، ولا يجوز للرجل أن يجمع بين أكثر من ذلك. وفي حالة الخوف من عدم العدل بين الزوجات، فإنه يجب على الرجل أن يقتصر على زوجة واحدة فقط، وذلك امتثالًا لقوله تعالى:(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً). “والخوف من عدم العدل يصدق بالظن والشك في ذلك، فالذي يباح له أن يتزوج ثانية أو أكثر هو من يثق من نفسه بالعدل ثقة لا شك فيها”.

تجدر الإشارة إلى أن هذه الآية وردت في سياق الحديث عن اليتامى، وخاصة اليتيمات اللواتي يقعن تحت رعاية الأوصياء الذين يحل لهم الزواج منهن. وقد حذرت الآية من استغلال ضعف اليتيمة أو عدم إعطائها مهرًا كاملاً كغيرها من النساء.

صلة الآية باليتيمات

عندما سُئلت السيدة عائشة -رضي الله عنها- عن قوله تعالى:(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ..)، أجابت:(يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليّها، فيرغب في جمالها ومالها، ويريد أن ينتقص صداقها، فَنُهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا في إكمال الصداق، وأُمروا بنكاح من سواهنّ). وأضافت:(قالت: واستفتى الناس رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- بعد ذلك، فأنزل الله تعالى (ويستفتونك في النساء) إلى (وترغبون أن تنكحوهن)، فأنزل الله لهم: أن اليتيمة إذا كانت ذات جمالٍ ومالٍ رغبوا في نكاحها ونسبها وسنتها في إكمال الصداق، وإذا كانت مرغوبةً عنها في قلة المال والجمال تركوها وأخذوا غيرها من النساء، قالت: فكما يتركونها حين يرغبون عنها، فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها، ويعطونها حقّها الأوفى في الصداق).

ملابسات نزول الآية

ذكرت السيدة عائشة -رضي الله عنها- أن هذه الآية نزلت في شأن يتامى النساء اللاتي كن في كفالة الرجال. فكانت اليتيمة تكون تحت رعاية الرجل وهي ذات مال، فلا يتزوجها لما فيها من التشوّه، ولا يُنكحها غيره طمعاً ورغبةً بمالها، لتموت فيرثها. وإذا تزوجها، فإنه يُمْسكها على غير عدل منه، وليس لها سواه يطالبه بحقّها.

توضيحات حول بعض المفاهيم

الآية الكريمة جاءت في سياق الإباحة والامتنان، ولو كان الزواج بأكثر من أربع جائزًا، لما تم تحديده بهذا العدد. وقد أكدت السنة النبوية على أنه لا يجوز لأحد من المسلمين أن يجمع بين أكثر من أربع نساء، وهذا الأمر محل إجماع بين العلماء. وقد استند بعض المشككين إلى فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في جمعه بين أكثر من أربع زوجات، حيث تزوج بخمس عشرة امرأة ودخل بثلاث عشرة منهن، واجتمع عنده إحدى عشرة، ومات عن تسع. ولكن هذا الأمر يعتبر من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- دون غيره من الأمة. وقد روى أيوب عن نافع وسالم أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يختار منهن أربعًا.

المراجع

  1. سورة النساء، آية:3
  2. ابن عاشور، التحرير والتنوير، صفحة 211.
  3. الفيروزآبادي، القاموس المحيط، صفحة 246.
  4. مجموعة من المؤلفين، المعجم الوسيط، صفحة 951.
  5. ابن جرير الطبري، جامع البيان، صفحة 542.
  6. أبأحمد مصطفى المراغي، تفسير المراغي، صفحة 180. بتصرّف.
  7. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، صفحة 183.
  8. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:5140، صحيح.
  9. ابو منصور الماتريدي، تأويلات أهل السنة، صفحة 7. بتصرّف.
  10. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، صفحة 184.
  11. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، صفحة 184.
  12. رواه ابن حبان، في صحيح ابن حبان، عن عبدالله بن عمر، الصفحة أو الرقم:4158، أخرجه في صحيحه.
Total
0
Shares
اترك تعليقاً
المقال السابق

تدبر في قوله تعالى: ‘فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ’

المقال التالي

تحليل وتفسير الآية (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)

مقالات مشابهة

الأدعية اليومية وأذكار الصباح والمساء في حياة المسلم

تعرف على أهمية الدعاء في حياة المسلم، والأدعية اليومية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى أذكار الصباح والمساء التي تحصن المسلم وتقربه من الله.
إقرأ المزيد