استلهام الموروث في قصيدة البكاء بين يدي زرقاء اليمامة

تحليل لقصيدة البكاء بين يدي زرقاء اليمامة وكيف استلهم الشاعر الأساطير والتراث والتاريخ في عمله الأدبي. دراسة للتناص الأسطوري والتاريخي في القصيدة وأثره في المعنى.

مقدمة

تعتبر قصيدة “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” من الأعمال الشعرية التي تميزت بقدرتها على استيعاب عناصر متنوعة من التراث العربي. فالقصيدة لا تكتفي بعرض الواقع، بل تتجاوزه إلى استلهام شخصيات وأحداث من التاريخ والأساطير لتعزيز المعنى وإضفاء عمق على التجربة الشعرية. يستعرض هذا المقال كيف وظف الشاعر مفهوم الاستنصاخ أو التناص بنوعيهِ الأسطوري والتاريخي في القصيدة.

استحضار الأساطير في القصيدة

يتجلى البُعد الأسطوري في القصيدة من خلال استدعاء صورة العرّافة المقدسة، وهي شخصية محورية في المجتمعات القديمة. كانت العرّافة تُعتبر وسيطًا بين عالم البشر وعالم الآلهة، وتحظى بمكانة رفيعة في المجتمع. من خلال استحضار هذه الشخصية، يعكس الشاعر حالة من الضياع وفقدان الثقة في الحاضر، ويلجأ إلى الماضي بحثًا عن إجابات ورؤى للمستقبل.

فالشاعر يبحث عن حل لأزمة وجودية من خلال اللجوء إلى العرافة، أملاً في استكشاف المستقبل وإمكانية تحقيق نصر.

يقول الشاعر:

أيتها العرافة المقدَّسةْ..
جئتُ إليك.. مثخناً بالطعنات والدماءْ
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة
منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ.

ويستعمل الشاعر شطراً من بيت شعري مشهور، ولكن قائله غير معروف. ويهدف الشاعر من خلال ذلك إلى ترسيخ فكرة تكرار التاريخ وعدم الاستفادة من دروس الماضي.

ويتابع الشاعر قائلًا:

تكلمي أيتها النبية المقدسة
تكلمي.. تكلمي..
فها أنا على التراب سائلٌ دمي
وهو ظمئُ.. يطلب المزيدا
أسائل الصمتَ الذي يخنقني:
“ما للجمال مشيُها وئيدا؟!
أجندلاً يحملن أم حديدا؟!”
فمن تُرى يصدُقْني؟
أسائل الركَّع والسجودا
أسائل القيودا:
“ما للجمال مشيُها وئيدا؟!”
“ما للجمال مشيُها وئيدا؟!”

إن تكرار عبارة “ما للجمال مشيها وئيدا” يعكس استياء الشاعر من التخاذل والبطء في التحرك للدفاع عن الحقوق والأرض، فيشبّه القوم بالجمال الثقيلة التي تسير ببطء شديد.

التراث والتاريخ في القصيدة

يظهر البعد التراثي والتاريخي في القصيدة من خلال استحضار شخصية زرقاء اليمامة، وهي شخصية معروفة في التراث العربي بحدة بصرها وقدرتها على رؤية الأحداث من مسافات بعيدة. زرقاء اليمامة كانت تحذر قومها من الأخطار، ولكنهم لم يصغوا إليها إلا بعد فوات الأوان.

ويستعرض الشاعر هذا الأمر في الأبيات التالية:

أيتها العَّرافة المقدسة..
ماذا تفيد الكلمات البائسة؟
قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ..
فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار!
قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار..
فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار!
وحين فُوجئوا بحدِّ السيف: قايضوا بنا..
والتمسوا النجاةَ والفرار!

يرى الشاعر تشابهًا بين وضع العرب بعد النكسة وحال قوم زرقاء اليمامة، حيث يتجاهل الناس التحذيرات حتى تقع الكارثة.

كما يستدعي الشاعر شخصية عنترة بن شداد العبسي، الفارس الشاعر الذي عانى من العبودية والتمييز. يربط الشاعر بين وضع عنترة ووضع المناضل العربي الذي يُستغل ويُدعى إلى القتال في حين أنه محروم من حقوقه.

ويقول الشاعر في هذا المعنى:

قيل ليَ “اخرسْ”
فخرستُ.. وعميت.. وائتممتُ بالخصيان!
ظللتُ في عبيد (عبسِ) أحرس القطعان
أجتزُّ صوفَها..أردُّ نوقها..أنام في حظائر النسيان
طعاميَ: الكسرةُ والماءُ.. وبعض الثمرات اليابسة
وها أنا في ساعة الطعانْساعةَ أن تخاذل الكماةُ.. والرماةُ.. والفرسانْدُعيت للميدان!
أنا الذي ما ذقتُ لحمَ الضأن..
أنا الذي لا حولَ لي أو شأن..
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان،أدعى إلى الموت.. ولم أدع إلى المجالسة!

خلاصة

تُظهر قصيدة “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” قدرة الشعر على استيعاب التاريخ والتراث لخدمة قضايا معاصرة. من خلال استلهام شخصيات وأحداث من الماضي، ينجح الشاعر في إضفاء عمق على تجربته الشعرية وإثارة تساؤلات حول الحاضر والمستقبل.

Total
0
Shares
اترك تعليقاً
المقال السابق

الفروقات الجوهرية بين العلوم الإنسانية والاجتماعية

المقال التالي

التربية الاجتماعية في الشريعة الإسلامية

مقالات مشابهة