مقدمة
منذ الأزل، سعى الإنسان إلى فهم أعماق ذاته، باحثًا عن إجابات شافية حول طبيعة الروح والنفس. لطالما كانت هذه المفاهيم محورًا للتساؤلات الفلسفية والدينية، ومصدرًا لإلهام المفكرين والباحثين. هل الروح والنفس كيان واحد، أم أنهما مفهومان مختلفان؟ هذا التساؤل أثار جدلاً واسعًا بين العلماء والمفكرين على مر العصور.
تحليل الفرق بين الروح والنفس
تتعدد وجهات النظر حول التمييز بين الروح والنفس، ويعتبر هذا الاختلاف جوهر النقاش بين العلماء. يسعى هذا المقال إلى استعراض وتحليل هذه الآراء المختلفة، مع التركيز على الأدلة الشرعية والعقلية التي يستند إليها كل رأي.
آراء العلماء حول الروح والنفس
تباينت آراء العلماء حول طبيعة الروح والنفس، وهل الروح مادية أم لا. يرى النظام أن الروح هي جسم وهي ذاتها النفس، معتبرًا أن الروح حية بذاتها، وينكر أن تكون الحياة والقوة مجرد معاني. بينما يرى آخرون، مثل جعفر بن حرب، أنهم لا يستطيعون تحديد ما إذا كانت الروح جوهرًا أم عرضًا، مستشهدين بقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).
[الإسراء: 85]، مؤكدين أن الآية لم تحدد طبيعة الروح.
ذهب بعض العلماء إلى أن الروح ليست سوى اعتدال الطبائع الأربع (الحرارة، البرودة، الرطوبة، اليبوسة)، بينما يرى آخرون أن الروح معنى خامس يتجاوز هذه الطبائع. ويرى البعض الآخر أن النفس معنى موجود بحدود وأركان، في حين يرى آخرون أن للنفس معنى مختلفًا عن الروح، وأن الروح ليست هي الحياة، مستشهدين بقوله تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). [الزمر: 42].
يرى جعفر بن حرب أن النفس عرض من الأعراض يوجد في الجسم، وهو أداة تساعد الإنسان على الفعل، كالصحة والسلامة، ولا ترتبط بصفات الأجسام والجواهر. بينما يرى آخرون أن النفس هي النسيم الذي يتنفسه الإنسان، وأن الروح عرض وهي الحياة فقط، وهذا ما ذهب إليه أبو بكر الباقلاني ووافقه عليه بعض الأشاعرة.
ويرى فريق آخر أن النفس ليست جسمًا ولا عرضًا، ولا تحدد بمكان، وليس لها طول أو عرض أو ارتفاع أو عمق أو لون، فهي لا تتجزأ ولا هي في العالم ولا خارجه، ولا مجانبة له ولا مباينة، وهو قول المشائين الذي حكاه الأشعري عن أرسطو، ويرون أن علاقتها بالبدن ليست بالحلول فيه أو المجاورة أو المساكنة أو الالتصاق أو المقابلة، وإنما علاقة التدبير والتصريف فقط، واختار هذا الرأي البسنجي ومحمد بن النعمان الملقب بالمفيد ومعمر بن عباد الغزالي وابن سينا وأتباعه.
في المقابل، ذهب ابن حزم وجماعة من أهل الإسلام إلى أن النفس جسم طويل وعريض وعميق وذو مكان، وهي جثة متحيزة مصرفة ومدبرة للجسد، وأن النفس والروح اسمان مترادفان لمعنى واحد، وهما جسم مخصوص موجود داخل البدن، وهو جسم مخالف من حيث الصفة والماهية للجسم المحسوس، فالروح والنفس جسم نوراني علوي خفيف حي ومتحرك، ينفذ في جوهر جميع الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد.
مصير الروح بعد الموت
عندما تفسد الأعضاء وتفقد قدرتها على استقبال الآثار، تفارق الروح الجسد وتنتقل إلى عالم الأرواح. وتدل على ذلك الأدلة الشرعية التالية:
- قوله تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الزمر: 42]. تدل الآية على توفي الأنفس وإمساكها وإرسالها.
- قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ، وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) [الأنعام: 93-94]. تدل الآية على بسط الملائكة أيديهم لتناول الأنفس، ووصف الأنفس بالإخراج والخروج، والإخبار عن عذاب أنفس الكفار في ذلك اليوم، والإخبار عن مجيء الأنفس إلى ربها.
- قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ) [الأنعام: 60-61]. تدل الآية على توفي الأنفس بالليل وبعثها إلى أجسادها بالنهار، وتوفي الملائكة لها عند الموت.
- قوله تعالى: (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر: 27-30]. تدل الآية على وصف النفس بالرجوع والدخول والرضا.
الروح في القرآن
ذُكرت كلمة الروح في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، وتحمل دلالات متنوعة:
- في سورة الإسراء: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء: 85]. نزلت هذه الآية عندما سأل اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح، والمقصود هنا أرواح بني آدم.
- في سورة الشعراء: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) [الشعراء: 193]. الروح الأمين هنا هو جبريل عليه السلام الذي ينزل بالقرآن الكريم من عند الله تعالى.
- في سورة غافر: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) [غافر: 15]. الروح في هذه الآية هو الوحي بالرسالة، وهو حياة وروح للبشرية جمعاء.
- في سورة النبأ: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) [النبأ: 38]. الروح هنا هو جبريل عليه السلام، أعلى الملائكة مقامًا.
النفس في القرآن
وردت كلمة النفس والأنفس في القرآن الكريم في عدة مواضع، منها:
- في سورة الزمر: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الزمر: 42]. هنا، الأنفس تعني الأرواح، وأن الله يقبض أرواح الناس بالموت والنوم، ثم يأخذ أرواح الأموات، ويعيد أرواح النائمين.
- في سورة الفجر: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر: 27-30]. وهي الأرواح المطمئنة التي يُقال لها ارجعي إلى ربك.
- في سورة آل عمران: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران: 185]. فالموت كأس سيشرب منه جميع الخلائق.
- في سورة يوسف: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [يوسف: 53]. فالنفس تتحدث وتتمنى وتأمر وتنهى، وهي تأمر بالسوء.