استعراض وتحليل لرواية التبر

نظرة معمقة على رواية التبر لإبراهيم الكوني. استكشاف للرموز، الأسلوب، والدلالات في الرواية الصحراوية الشهيرة.

إعادة سرد لأحداث التبر

تدور أحداث هذه الملحمة الأدبية حول شخصية “أوخيّد”، الذي يمتلك “مهرية” (نوع من الإبل) فريدة من نوعها، تلفت انتباه الجميع بجمالها ورشاقتها. هذه “المهرية” تصبح محور حياة “أوخيّد”، حيث يُكرس وقته وجهده للعناية بها والاهتمام بشؤونها. حتى أنه يشجع شاعرة من قبيلته على نظم قصيدة تخلد جمال هذا المخلوق النبيل، ويُدربها على الرقص في المناسبات الاحتفالية.

تتطور الأحداث عندما تقع “المهرية” في حب ناقة تعود لقبيلة أخرى. بدلًا من أن يمنع “أوخيّد” هذا العشق، يختار أن يسانده، فيتسلل ليلاً إلى مضارب القبيلة الأخرى ليجمع بين “المهرية” ومعشوقتها. عندما يُكشف هذا الأمر، يقترح زعيم القبيلة حلاً يرضي الجميع: أن ترعى “المهرية” مع إبل قبيلته، لتنعم بسلالة أصيلة. أما “أوخيّد”، فإنه يتزوج من الفتاة التي يحبها، متحدياً غضب والده الذي يلعنه ويحرمه من الميراث.

تتوالى المصائب عندما يمرض “الأبلق” (المهرية) بداء الجرب. ينطلق “أوخيّد” في رحلة بحث يائسة في الصحراء، باحثاً عن علاج لرفيقه الذي يعاني. أخيراً، يجد ضالته عند نصب الإلهة تانيت، حيث ينذر بذبح جمل سمين مقابل شفاء “الأبلق”. تتحقق أمنيته، وبعد شفاء “الأبلق” العجيب، يشتري “أوخيّد” جملاً ويُطلقه في المرعى لينمو ويسمن، استعداداً لتقديمه قرباناً للإلهة تانيت. ولكنه، في غمرة فرحة عرسه، ينسى نذره تماماً.

يموت والد “أوخيّد”، وتتفرق قبيلته، وتشتد الحرب بين الطليان والمقاومة، فيحل الجفاف والمجاعة. يجد “أوخيّد” نفسه في موقف صعب، بعد أن فقد جرابي التمر والشعير اللذين تركهما له أحد أقارب زوجته. في المكان الذي ضاع فيه الجرابان، يجد رمز المثلث، رمز الإلهة تانيت، فيتذكر نذره القديم. لكنه لا يستطيع فعل أي شيء لعدم امتلاكه المال. عندها، تطلب الإلهة تانيت، في حلم يراوده، “الأبلق” ثمناً للنذر.

يرفض “أوخيّد” التضحية بـ “الأبلق”. لكن عندما يعود قريب زوجته، يضطر إلى رهن “الأبلق” مقابل جملين. يبيع أحد الجملين ليطعم أسرته، ويستخدم الآخر للعمل. ولكن “الأبلق” يهرب مراراً وتكراراً من صاحبه الجديد ويعود إلى “أوخيّد”. عندها، يقرر “أوخيّد” استعادة “المهرية” مهما كلف الأمر. الثمن يكون طلاق زوجته، ليتزوجها قريبها الذي هو أيضاً ابن عمها.

على الرغم من رفضه الشديد، يرضخ “أوخيّد” للأمر الواقع، ويطلق زوجته. مقابل هذا الطلاق، يمنحه قريب الزوجة حفنتين من “التبر” (الذهب). ينطلق “أوخيّد” مع “الأبلق”، آملاً في حياة سعيدة، ولكنه يسمع عن العار الذي لحق به بعد انتشار شائعة بيعه زوجته وولده مقابل “التبر”.

يسعى “أوخيّد” للانتقام من قريب زوجته، ويقتله. تثور قبيلة القتيل وتطارد “أوخيّد” ليس فقط للأخذ بالثأر، بل أيضاً لأن العرف القبلي يقتضي قتل القاتل لتقسيم ميراث القتيل بين أفراد القبيلة.

يهرب “أوخيّد” في البداية، ثم يقرر اللجوء إلى كهوف الجبال. يطلق “المهرية” في الصحراء لحمايته من الأذى، لكن “المهرية” تعود إليه وتكشف مخبأه للأعداء. وهكذا يُقتل “أوخيّد”، بينما يبقى “الأبلق” على قيد الحياة.

قراءة في دلالات ورموز رواية التبر

تعتمد رواية إبراهيم الكوني على نظام رمزي معقد، يقدم لنا قراءة باطنية تتجاوز الأحداث الظاهرية. الصراع الجوهري في الرواية هو صراع بين الحرية والعبودية. فالصحراء ترمز إلى الحرية المطلقة، بينما يمثل “الأبلق” العبودية والارتباط بقيود العالم المادي. تتفرع من هذين الرمزين الرئيسيين سلسلة من الرموز الأخرى، حيث يعتبر كل عنصر في الرواية إشارة ذات معنى عميق، وذلك وفقًا لقاموس إبراهيم الكوني اللغوي الخاص. فالأحلام، الأسرار، رسومات الكهوف، وحيوانات الصحراء، كلها تحمل دلالات وإشارات خفية.

كل صراع واجهه “أوخيّد” كان بمثابة إشارة، ولكنه فشل في فهمها أو تفسيرها. ظل متمسكاً بـ “الأبلق” بشكل أعمى، حتى انقلب النذر وأصبح “أوخيّد” نفسه هو القربان المقدم للإلهة تانيت.

المرأة في الرواية ترمز إلى الصحراء، وهي إحدى الإشارات التي عجز “أوخيّد” عن استيعابها، مما أدى إلى إصابته باللعنة. واللعنة، في جوهرها، هي نوع من النفي. والنفي هو شكل من أشكال الحرية، حيث يتحرر المرء من قيود الملكية والتبعية. لكن “أوخيّد”، لكونه عبداً أعمى، أي أنه عبد لا يدرك أنه عبد، لم يستطع أن يتحرر وهو حي. ربما تحقق تحرره الحقيقي فقط عند موته، عندما تمكن، في لحظة أخيرة، من فهم معنى الإشارة.

تحليل فني في أسلوب كتابة الرواية

تتجلى الخصائص الأسلوبية للرواية من خلال:

  1. التكوين اللغوي

    اعتمد المؤلف على التشويق كخاصية أسلوبية تربط بين السارد والقارئ. ولتحقيق هذه الغاية، استخدم مفردات من المعجم اللغوي الصحراوي، ووظف تقنية الوصف التفصيلي، والتكرار للتأكيد، والتقديم والتأخير لإضفاء الإثارة. كما استخدم تقنيات سردية متعددة، مثل الاستفهام والنهي، والتنويع في أنواع الجمل (فعلية واسمية، طويلة وقصيرة). جاء السرد بضمير الغائب، مما سمح بعرض وجهات نظر الشخصيات المختلفة وإيصالها إلى القارئ بشكل مباشر.

  2. التكوين البياني

    يظهر بوضوح من خلال استخدام المجاز والشاعرية في التراكيب والتشكيل الاستعاري في الوصف والتصوير. بالإضافة إلى ذلك، تم استخدام الصور البيانية، والمجاز المرسل، والاستعارة المكنية، والتجديد في الأساليب، والتشخيص (إضفاء صفات بشرية على الجمادات)، والتشبيه. كل ذلك بهدف نقل القارئ إلى العالم العجائبي للرواية ودمجه فيه.

استكشاف البعد الدلالي في رواية التبر

حضر علم الدلالة بشكل بارز في جميع أنحاء الرواية، ويتجلى ذلك من خلال:

  • يسيطر مفهوم البقاء والفناء على فضاء الصحراء الشاسع.
  • يرتكز النص على الميثولوجيا، حيث استخدم الكوني الرموز والإشارات والأساطير بشكل مكثف.
  • تظهر الأسطورة داخل النص حية ومتفاعلة، وتشكل مسار الأحداث وتؤثر على تطور الشخصيات.
  • يحتل الحيوان مكانة مهمة عند الكوني، ويلعب دوراً رئيسياً في الرواية.
  • اعتمد الكوني على التناص في بداية بعض فصول الرواية، ليقوم بدور تمهيدي إشاري يشير بشكل غير مباشر إلى الأحداث القادمة. كما اعتمد على الملمح الصوفي في سرد الرواية.

المراجع

  • إبراهيم الكوني، رواية التبر، صفحة 6 – 337. بتصرّف.
  • بن دبلة ملول، تجليات العجائب في الخطاب الروائي، صفحة 76 – 143. بتصرّف.
  • رشا أحمد محمود، قراءة سيميولوجية في رواية التبر لإبراهيم الكوني، صفحة 3 – 4. بتصرّف.
Total
0
Shares
اترك تعليقاً
المقال السابق

نظرة في رواية البحث عن وليد مسعود

المقال التالي

نظرة معمقة على رواية الجريمة الكاملة

مقالات مشابهة