مقدمة
لا شك أن للقرآن الكريم أثرًا بالغًا في إصلاح النفوس وتهذيبها، وتوجيهها نحو الطريق الأقوم في التفكير والشعور والسلوك. فيه من الآيات المحكمات ما يرشد المؤمنين إلى أرقى الأخلاق، وأسمى الصفات، ويحثهم على التمسك بها. هذه المقالة تتناول إحدى السور التي تتضمن آدابًا جمة وقواعد للتهذيب والتزكية، وهي سورة الحجرات.
لمحة عن سورة الحجرات
سورة الحجرات نزلت في السنة التاسعة للهجرة، وهي بالتالي سورة مدنية بإجماع العلماء. يبلغ عدد آياتها ثمانية عشر آية، وهي السورة التاسعة والأربعون في ترتيب المصحف العثماني. نزلت بعد سورة المجادلة وقبل سورة التحريم. لم تعرف هذه السورة إلا باسم الحجرات، وقد سميت بهذا الاسم في المصحف والسنة النبوية وكتب التفسير، وذلك لذكر لفظ “الحجرات” فيها، حيث نزلت في قصة نداء بني تميم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته.
استنباط الدروس والعبر من سورة الحجرات
تزخر سورة الحجرات بالعديد من الدروس والعبر القيّمة، ومن أبرزها:
-
تقديم أمر الله ورسوله:
وجوب تقديم أمر الله وأمر رسوله، ويكون ذلك بالتمسك بكتاب الله وسنة نبيه المصطفى وما فيهما من أحكام وأوامر ونواهي، بحيث تكون هي الفاصلة والحاكمة لحياة المسلم، ولها الأولوية على غيرها من الأعراف والتقاليد والمحدثات من الأمور. كما قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
-
الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
تعليم المسلمين بعض ما يجب عليهم من الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاملته وخطابه وندائه، تعظيمًا لقدره الشريف، واحترامًا لمقامه السامي، فهو ليس كعامة الخلق، ومقامه يفرض على الناس إظهار التبجيل والتوقير.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ
. -
أهمية التثبت من الأخبار:
بيّنت السورة أهم دعائم المجتمع الفاضل في ذكر أهمية التثبت والتحقق عند نقل الأخبار والأحاديث، فلا يعتمد المسلم على الكلام الشائع الذي يلوكه الناس دون فهم أو بصيرة، كما تحث السورة على عدم سماع الشائعات خاصة إذا صدرت من شخص غير عدل. قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ
. -
الإصلاح بين المؤمنين:
تعظيم عبادة إصلاح ذات البين، وحث المؤمنين على الإصلاح بين المتخاصمين منهم، اعتبارًا لمفهوم الأخوة الذي يجمعهم، ودفع عدوان الباغين. قال تعالى:
وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
. -
التحذير من الأخلاق الذميمة:
بيّنت السورة صفات المجتمع المسلم نظيف المشاعر، لا يتعرّض فيه أمن الناس وكرامتهم لأي مساس، فحذّرت من السخرية والهمز واللمز والتنابز بالألقاب، ونفّرت من الغيبة، ونهت عن التجسس وإساءة الظن بالآخرين، ودعت إلى مكارم الأخلاق والفضائل الاجتماعية.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ
. -
التقوى معيار التفاضل:
ذكرت السورة أن الله عز وجل خلق عباده من ذكر وأنثى، وفرّقهم في شعوب وقبائل بغرض التعايش والتعارف، لا ليتفاخروا بالألقاب والأنساب والأوطان، وبيّنت الآية أن معيار الأفضلية عند الله هو التقوى ولا شيء سواها. قال تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
. -
حقيقة الإيمان:
خُتمت السورة بالحديث عن الأعراب، الذين ابتدأت السورة بذكرهم، والذين ظنّوا أن الإيمان بالله عبارة عن كلمة تُقال باللسان فقط، وجاؤوا بذلك يمنّون على الرسول بإيمانهم، وقد وضّحت الآية على لسان النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة الإيمان، وحقيقة الإسلام، وشروط المؤمن الذي جمع بين الإيمان في قلبه، وبين العمل الصالح والإخلاص والاجتهاد فيه إلى الله تعالى.
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ
.
أهمية سورة الحجرات
تكمن أهمية هذه السورة في احتوائها على مبادئ إسلامية شاملة، وتوجيهات وآداب أخلاقية ترتقي بالفرد والمجتمع. لقد وضعت هذه السورة منهجًا قويمًا للتعامل بين الأفراد، ورسمت حدودًا للعلاقات الاجتماعية، وحفظت حقوق كل فرد، وشكلت دستورًا متكاملًا في التربية والأخلاق والتشريع. إنها تساهم في بناء مجتمع مؤمن وسليم، يتميز بالأدب والذوق الرفيع، ويتحلى أفراده بالحكمة والعقلانية، ويتجنبون الانسياق وراء الشائعات والأقاويل دون تثبت وتبين، وهذا ما يميز المجتمع المسلم المؤمن الذي يحفظ حق الله وحقوق عباده.
المراجع
- الشيخ ناصر بن سليمان العمر، سورة الحجرات دراسة تحليلية وموضوعية، صفحة 6. بتصرف.
- نجلاء السبيل، وقفات تربوية مع سورة الحجرات، صفحة 11. بتصرف.
- د. فارس العزاوي، “دروس منتقاة من سورة الحجرات”، الألوكة. بتصرف.
- “دروس من سورة الحجرات”، إسلام ويب. بتصرف.