تفسير الآية الكريمة (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ)
فيما يلي شرح تفصيلي لهذه الآية القرآنية:
الهمزة الاستفهامية
تبدأ الآية بالهمزة، وهي أداة استفهام تحمل معنى التوبيخ والتقريع. إنها موجهة من النبي لوط -عليه السلام- إلى قومه، تعبيراً عن استنكاره الشديد لفعلتهم الشنيعة. إنها بمثابة تذكير لهم بأن هذا السلوك منحرف وغير مقبول، ولا يوجد له أي مبرر. وكأنه يقول لهم: “كيف تفعلون هذا الفعل الفاحش الذي لم يسبقكم إليه أحد من العالمين؟ فأنتم بذلك أول من سن هذه السنة السيئة، وسيتحمل وزرها ووزر كل من يتبعكم فيها إلى يوم القيامة.”
تعبير “أتأتون”
استخدم القرآن الكريم لفظ “الإتيان” للدلالة على سهولة الفعل ويسره. فالإتيان يعني المجيء بيسر وسهولة. وهذا يشير إلى أن قوم لوط قد بلغوا درجة عالية من الانحطاط الأخلاقي، حيث أصبح هذا الفعل الشاذ سهلاً وميسراً بالنسبة لهم، بسبب فساد فطرتهم وانحراف سلوكهم. وقد ورد في آية أخرى ما يدل على انتشار هذا الفساد واستشرائه في المجتمع، حيث قال تعالى: (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ). وهذا يدل على أنهم كانوا يفعلون المنكر علانية، دون خجل أو حياء، حتى في الأماكن العامة. فإذا كان هذا هو حالهم في المجالس والنوادي، فكيف سيكون حالهم في الخلوات؟!
“الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ”
وصل فسادهم إلى درجة أنهم لا يترددون في ممارسة هذه الفاحشة مع أي شخص، سواء كان من أبناء قبيلتهم أو من الغرباء والضيوف. وهذا يدل على أنهم قد تجاوزوا كل الحدود والقيم الأخلاقية.
السياق العام للآية (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ)
تأتي هذه الآية ضمن سياق قصة النبي لوط -عليه السلام- مع قومه في سورة الشعراء، وتبدأ من الآية (160). تتحدث هذه الآيات عن قوم اشتهروا بفعل الفاحشة، والاكتفاء بالرجال لقضاء الشهوة الجنسية دون النساء، وهو سلوك لم يعرفه أحد قبلهم. كما جاء في قوله تعالى في سورة الأعراف: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ* إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ). فسألهم لوط مستنكراً: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ)، أي: “أتفعلون أنتم – من بين جميع الناس – هذا الفعل الشنيع؟ فأنتم وحدكم تختصون بهذه الفاحشة.”
دلالة الاستفهام في الآية (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ)
الاستفهام هنا ليس استفهاماً حقيقياً يهدف إلى طلب الإجابة، بل هو استفهام إنكاري وتوبيخي. فالنبي لوط -عليه السلام- لم يكن ينتظر إجابة من قومه، بل كان يهدف إلى توبيخهم وتقريعهم على فعلتهم الشنيعة. وقد ذكر الدكتور وهبة الزحيلي أن الاستفهام في هذه الآية يحمل ثلاثة أغراض: الإنكار، والتقريع، والتوبيخ. وكأنه يسألهم موبخاً: “كيف تقدمون على هذا الفعل الشاذ الذي يخالف الفطرة السليمة، وتتركون النساء اللاتي جعلهن الله محلاً طبيعياً حلالاً للشهوة؟”. وسبب هذا التوبيخ هو وجود المقتضيات التي تدعوهم إلى اتباع نصيحة نبيهم، وعدم وجود موانع تمنعهم من ذلك. فأنكر عليهم جريمتهم التي أصبحت وصمة عار في جبين البشرية.
المراجع
- سيد طنطاوي، التفسير الوسيط، صفحة 315.
- الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، صفحة 60.
- سورة العنكبوت، آية:29
- الشعراوي، تفسير الشعراوي، صفحة 11145. بتصرّف.
- ابن عثيمين، تفسير العثيمين: سورة الشعراء، صفحة 259. بتصرّف.
- الزمخشري، الكشاف، صفحة 330.
- سورة الأعراف، آية:80-81
- سورة الشعراء، آية:165
- أبو الحفص النسفي، التيسير في التفسير، صفحة 298. بتصرّف.
- برهان الدين البقاعي، نظم الدرر، صفحة 81. بتصرّف.
- وهبة الزحيلي، التفسير المنير، صفحة 204. بتصرّف.