تمهيد
تعتبر قصيدة “جاءت معذبتي” من روائع الشعر الأندلسي، وهي من نظم لسان الدين بن الخطيب. يظن البعض أن القصيدة تعبر عن تجربة غرامية، لكن التحليل الدقيق يكشف عن أنها تصور معاناة الشاعر مع المرض. القصيدة تتميز ببساطة الألفاظ وعمق المعاني. فيما يلي، نتناول القصيدة بشيء من التفصيل.
نبذة عن الشاعر لسان الدين بن الخطيب
هو محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني، المعروف بلسان الدين بن الخطيب. لم يكن مجرد شاعر، بل كان فيلسوفًا، وطبيبًا، وسياسيًا بارعًا. ترك بصمة واضحة في عصره من خلال مؤلفاته المتنوعة، وتعتبر قصيدة “جاءت معذبتي” واحدة من أشهر أعماله التي تغنى بها العديد من الفنانين، من بينهم صباح فخري.
نظرة في القصيدة
تتميز قصيدة “جاءت معذبتي” بأسلوبها السهل والمباشر، رغم عمق المعاني التي تحملها. الشاعر يستخدم تشبيهات واستعارات جميلة للتعبير عن ألمه ومعاناته.
جَاءَتْ مُعَذِّبَتِي فِي غَيْهَبِ الغَسَقِ
كَأنَّهَا الكَوْكَبُ الدُرِيُّ فِي الأُفُقِ
في هذه الأبيات، يصف الشاعر اشتداد الألم في ساعات الليل، وكأنه محبوبة تزوره في الظلام. الليل هنا ليس مجرد وقت، بل هو رمز للمعاناة التي تشتد وطأتها. يشبه الشاعر ألمه بالكوكب المتلألئ الذي ينير الأفق، مما يدل على حضوره القوي والمؤثر.
فَقُلْتُ نَوَّرْتِنِي يَا خَيْرَ زَائِرَةٍ
أمَا خَشِيتِ مِنَ الحُرَّاسِ فِي الطُّرُقِ
يخاطب الشاعر ألمه وكأنه زائر عزيز، ويتساءل عن سبب إصراره على زيارته في الليل، متجاهلاً الصعاب والمخاطر. هذا التساؤل يعكس حالة الاستسلام التي وصل إليها الشاعر، وكأنه لا يملك خيارًا سوى تقبل هذا الألم.
فَجَاوَبَتْنِي وَدَمْعُ العَيْنِ يَسْبِقُهَامَنْ يَرْكَبِ البَحْرَ لا يَخْشَى مِنَ الغَرَقِ
هنا، يجيب الألم على تساؤلات الشاعر، مؤكدًا أنه لا يهاب شيئًا في سبيل زيارته. الألم يشبه نفسه بالبحار الذي لا يخشى الغرق، مما يدل على قوته وإصراره. هذا البيت يعكس فكرة أن الألم جزء لا يتجزأ من حياة الشاعر، وأنه لا يمكن الهروب منه.
فقلت هذي أحاديثٌ ملفقة
موضوعة قد أتت من قول مختلق
يرد الشاعر هنا على محبوبته قائلاً: إن حديثك هذا ما هو إلا كلام مزخرف ومُجمل، ضعيف لا يوجد له أساسٌ يستند عليه، وأنك ألفت هذا الكلام وجئتِ به من مخيلتك، وهنا يقصد الشاعر أن يقول لمرضه بأنه لا يزوره حباً ولا وداً كما يدعي؛ بل يزوره ليجعله ساهراً من شدة الألم، وأي قول غير ذلك ما هو إلا كذب.
فقالت وحق عيوني عزّ من قسم
وما على جبهتي من لؤلؤ الرمق
إني أحبك حباً لا نفاد له ما دام
في مهجتي شيء من الرمق
ترد هنا حبيبته على كلامه في البيت السابق، وهي تُقسم بعينيها، وبالباقي من أيام حياتها وباللؤلؤ الذي تضعه زينةً على جبينها: أقسم بأني أحبك حباً لا يمكن أن يقل أو ينفد ما دمت حية، وما بقيت روحي تنعم بالحياة، و ما بقي الدم يجري في عروق قلبي، إني أحبك لآخر أنفاسي.. وكأن المرض يقول للشاعر أنه يبقى في رحاب زيارته ليلاً من شدة حبه له وبسبب ولعه به فهو لا يستطيع أن يفارقه، ولا يطيق البعد عنه.
فقمت ولهانَ من وجدي أقبلها
زحتُ اللثام، رأيتُ البدر معتنقِ
قبلتها، قبلتني، وهي قائلة
قبلت فاي، فلا تبخل على عنقي
يقول الشاعر أنه من شدة ولعه بها وحبه لها، قام من مكانه يُقبلها يسيطر عليه شغف العشاق وولههم، وقد اقترب منها وأزاح عنها ما يغطي وجهها، فرآها جميلة جدًّا كالبدر الذي يضيء ويزين السماء في تمامه، وهي قالت له بشغف: لا تتوقف عن تقبيلي، فكما قبلت فمي لا تبخل علي بأن تعانق يداك عنقي.
قلت العناق حرامٌ في شريعتنا
قالت أيا سيدي واجعلهُ في عنقي
قال الشاعر لمحبوبته: إن العناق حرام في شريعتنا، فردت عليه قائلة: أريدك أن تعاتقني وتقبلني في عنقي بالرغم من أي شيءٍ آخر.
تفسير معاني الكلمات
لفهم القصيدة بشكل أعمق، لا بد من التعرف على معاني بعض الكلمات والمفردات التي استخدمها الشاعر:
الكلمة | المعنى |
---|---|
غيهب | الظلمة الشديدة. |
الغسق | عتمة أول الليل. |
الدري | المتلألئ. |
ملفقة | مزخرفة. |
مُهجة | دم القلب أو الروح. |
الرمق | بقية الروح، آخر النفس. |
ولهان | متحير وتائه من شدة الحب. |