المحتويات
ماهية خشية الله في الخفاء والعلن
إن استشعار خشية الله -تعالى- في السر والعلن هو الأساس الذي تنبني عليه كل الفضائل وهو الحاجز المنيع الذي يصد الشرور عن الإنسان. هذا الشعور ينبع من إحساس دائم بقرب الله -عز وجل- ومراقبته لنا في كل لحظة ومكان. هذا الإحساس يدفع الإنسان إلى محاسبة نفسه باستمرار على كل فعل يقوم به، مما يجعله حريصًا على أن تكون جميع أعماله متوافقة مع ما يحبه الله ويرضاه.
في اللغة العربية، كلمة “التقوى” تعني الحماية والوقاية والستر من كل ما يؤذي. وعندما نقول “وقاك الله شر فلان” فإننا ندعو الله أن يحفظك منه. أما الشخص التقي فهو الذي يحمي نفسه من المعاصي والعذاب من خلال أداء الأعمال الصالحة. أما في الاصطلاح الشرعي، فالتقوى كما عرفها الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
“هي عبادته، بفعل الأوامر وترك النواهي عن خوف من الله ورغبة فيما عنده، وعن خشية له سبحانه، وعن تعظيم لحرماته، وعن محبة صادقة له ولرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-“.
إن خشية الله، سواء كانت في الخفاء أو العلن، تتجلى في أمرين أساسيين: أولهما فعل الطاعات، وثانيهما اجتناب المعاصي. الالتزام بهذين الأمرين هو دليل قاطع على اتباع أوامر الله -تعالى- خوفًا من عقابه ورجاءً في ثوابه. من الضروري التأكيد على أن الدافع لخشية الله ليس فقط محبة الله -تعالى- بل أيضًا طلب الجنة والثواب والخوف من النار، وهذا ما أكد عليه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة من خلال حث الناس على طلب الجنة والثواب من الله -تعالى-. فقد قال -سبحانه وتعالى-:
(لَـكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّـهِ لَا يُخْلِفُ اللَّـهُ الْمِيعَادَ)
كما أن الخوف من النار والدعاء بالنجاة منها هو جزء لا يتجزأ من التقوى، وقد قال الله -تعالى-:
(فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)
والأنبياء -عليهم أفضل الصلاة والسلام- كانوا يطلبون الثواب ويخافون من النار، كما قال الله -تعالى- في سورة الأنبياء:
(إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).
إن أعظم نعيم يمكن أن يناله الإنسان هو دخول الجنة ورؤية الله -عز وجل-، وأكبر شقاء هو دخول النار والحرمان من رؤية الله -تعالى-. هذا النعيم هو الهدف الأسمى الذي يسعى إليه كل من يخشى الله، فيسخر حياته لفعل الطاعات والإكثار منها، والابتعاد عن المعاصي في كل شؤون حياته، ويقضي الليالي في الدعاء والتضرع إلى الله، راجيًا رحمته وخائفًا من غضبه. وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
(اتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ)
ولتحقيق التقوى، يجب على الإنسان أن يحرص على عدة أمور:
- أن يصاحب الأعمال الصالحة بالنية والإخلاص لله -تعالى- في القلب. فالتقوى لا تتحقق في أداء الأعمال الظاهرية كالصلاة والصيام والصبر والصدقة، دون وجود النية الصادقة. قال -تعالى-:
- أن يتبع السيئة بالحسنة لتمحوها، حيث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
(اتَّقِ اللَّهِ حيثُ ما كنتَ، وأتبعِ السَّيِّئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالقِ النَّاسَ بخلقٍ حسنٍ).
- أن يتحلى بحسن الخلق مع الله ومع الناس، فالأخلاق الحسنة هي من أهم صفات المتقين، وهذا ما يؤكده الحديث السابق.
- أن يحرص على أداء صلاة النافلة في أطراف النهار والليل لتطهير نفسه من المعاصي. قال -تعالى-:
- أن يترك كل ما فيه شبهة خوفًا من الوقوع في الحرام، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
(البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ، وَالإِثْمُ ما حَاكَ في نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عليه النَّاسُ).
- أن يتجنب الغلظة والإكثار من الخصام مع الآخرين، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
(إنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إلى اللَّهِ الألَدُّ الخَصِمُ).
- أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال الله -عز وجل-:
(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
وقد حذر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنه سبب لغضب الله والعذاب الشديد، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
(والَّذي نَفسي بيدِهِ لتأمُرُنَّ بالمعروفِ ولتَنهوُنَّ عنِ المنكرِ أو ليوشِكَنَّ اللَّهُ أن يبعثَ عليكُم عقابًا منهُ ثمَّ تَدعونَهُ فلا يَستجيبُ لَكُم)
وهذا موافق لقوله -تعالى-:
(فَلَمّا نَسوا ما ذُكِّروا بِهِ أَنجَينَا الَّذينَ يَنهَونَ عَنِ السِّوءِ وَأَخَذنَا الَّذينَ ظَلَموا بِعَذابٍ بَئيسٍ بِما كانوا يَفسُقونَ).
(وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).
(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيلِ إِنَّ الحَسَناتِ يُذهِبنَ السَّيِّئَاتِ).
أهمية استشعار خشية الله في السر
إن استشعار خشية الله -تعالى- في السر له أهمية بالغة، فهو الفيصل الذي يميز الصادق من المنافق. فكم من شخص يحرص على غض بصره عن النساء أمام الناس، ولكنه في خلوته يطلق العنان لنظراته! هذا هو النفاق بعينه. التقوى الحقيقية تقتضي أن يكون الإنسان محاسبًا لنفسه في السر والعلن على حد سواء. فعل الخير وتجنب الشر أمام الناس قد يكون أسهل من فعله في الخفاء، لذلك فإن صدق التقوى يظهر جليًا في السر.
أما الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، فهم ممقوتون عند الله وعند الناس. قال أبو الدرداء -رحمه الله-:
“لِيَتَّقِ أحدُكم أنْ تلعنه قلوبُ المؤمنين وهو لا يشعر، يخلو بمعاصي الله، فيلقي الله له البغضَ في قلوب المؤمنين”.
وقال غيره:
“إنَّ العبد ليذنب الذنب فيما بينه وبينَ الله، ثم يجيءُ إلى إخوانه، فيرون أَثَرَ ذلك عليه”.
إذًا، فالتقوى في السر هي علامة على كمال الإيمان، وهي أعلى درجة من التقوى في العلن. ذلك لأن الخشية والخوف والقرب من الله يكون أعمق وأكبر عند الإنسان الذي يخشى الله في سره قبل جهره.
جزاء خشية الله في الخفاء والعلن
للتقوى في السر والعلن فوائد جمة وثمار يانعة، نذكر منها ما يلي:
- المتقون هم الذين ينتفعون بالقرآن، فيهتدون به ويتوفقون بسببه. قال -تعالى-:
(الم* ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ۛهُدًى لِّلْمُتَّقِينَ).
- الله -تعالى- يكون مع المتقين، وهذه المعية هي معية حماية وتوفيق ونصرة وتأييد وتسديد وإعانة. قال -تعالى-:
(إنَّ اللَّـهَ مَعَ الَّذينَ اتَّقَوا وَالَّذينَ هُم مُحسِنونَ).
- المتقون ينالون مكانة عالية يوم القيامة. قال الله -عز وجل-:
(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّـهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
- الله -تعالى- يوفق المتقين للعلم النافع والعمل الصالح. قال -تعالى-:
(وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّـهُ).
- التقوى هي السبب الموصل إلى الجنة. قال الله -عز وجل-:
(جَنّاتُ عَدنٍ يَدخُلونَها تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ لَهُم فيها ما يَشاءونَ كَذلِكَ يَجزِي اللَّـهُ المُتَّقينَ).
- المتقون لا يخافون من كيد الأعداء. قال -تعالى-:
(وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّـهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).
- التقوى هي سبب لتأييد الله والمدد منه. قال الله -تعالى-:
(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّـهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ* بَلَىٰ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ).
- المتقون لا يؤذون عباد الله والناس أجمعين. قال -تعالى-:
(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
- التقوى سبب لقبول الله الأعمال. قال -تعالى-:
(إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).
- التقوى تورث الفلاح وتبعد الخسران. قال -تعالى-:
(فَاتَّقُوا اللَّـهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
- التقوى تحمي صاحبها من الزيغ والضلال بعد الهداية. قال -تعالى-:
(وأَنَّ هـذا صِراطي مُستَقيمًا فَاتَّبِعوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبيلِهِ ذلِكُم وَصّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقونَ).
- التقوى هي علامة كمال الإيمان، فهي تشمل جميع أعمال القلوب والجوارح في السر والعلن.
- العبد التقي يستشعر عظمة مجازاة الله -تعالى- له وتوفيقه في الدنيا قبل الآخرة، في حياته ومعاملاته مع الناس.
- خشية الله في السر والعلن سبب لحسن الخاتمة. قال -تعالى-:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).
- التقوى سبب لنيل رحمة الله -عز وجل-.
- التقوى سبب للنجاة من العذاب في الدنيا. قال -تعالى-:
(وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).
- المتقي يستحق الإكرام عند الله. قال -تعالى-:
(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ).
- الله والملائكة والناس يحبون التقي، فإذا أحب الله العبد أحبه الملائكة وزرع الله حبه في قلوب الناس. قال -تعالى-:
(بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).
- الله -تعالى- يبارك في أعمال المتقين.
- المتقون في السر والعلن يرزقهم الله -تعالى- البصيرة التي تمكنهم من التفريق بين الحق والباطل. قال -تعالى-:
(يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن تَتَّقُوا اللَّـهَ يَجعَل لَكُم فُرقانًا وَيُكَفِّر عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِر لَكُم وَاللَّـهُ ذُو الفَضلِ العَظيمِ).
- التقوى هي مصدر الرزق من غير احتساب ولا قوة، وهي المخرج من كل ضيق. قال الله -عز وجل-:
(وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).
- التقوى هي سبب لتيسير الأمور. قال -تعالى-:
(وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا).
- التقوى في السر والعلن سبب للحصول على البركات من السماء والأرض. قال -تعالى-:
(وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرى آمَنوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنا عَلَيهِم بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ).
- التقوى في السر والعلن سبب لحفظ الأهل والمال والمصالح بعد الموت. قال -تعالى-:
(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّـهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا).
- التقوى تجعل للإنسان هيبة وشرفًا بين الناس.
- الله يعوض المتقين بخير مما تركوا. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
(إنَّكَ لن تدَعَ شيئًا اتِّقاءَ اللَّهِ، جَلَّ وعَزَّ، إلَّا أعطاكَ اللَّهُ خيرًا منهُ).
- التقوى سبب لطمأنينة القلب.