مقدمة حول الحقبة العباسية الثانية
من الضروري الإشارة في البداية إلى أن الحقبة العباسية الثانية بدأت مع تولي الخليفة المتوكل زمام الحكم سنة 232 هـ، واستمرت حتى سنة 334 هـ، حينما استلم الخليفة المستكفي الحكم. يصف المؤرخون هذه المرحلة بأنها تمثل أضعف فترات الخلافة العباسية من الناحية السياسية، حيث فقدت مؤسسة الخلافة الكثير من هيبتها وسلطتها.[1]
أما الوضع الاقتصادي في هذه الفترة فلم يكن أفضل حالًا من الوضع السياسي، حيث تركزت الثروات والنفوذ والسلطة والترف في أيدي فئة قليلة من الناس، وهم الخلفاء والأمراء والتجار والعلماء والأدباء. بينما عانت الطبقات الأخرى من الفقر واليأس، وحتى الأغنياء لم يكونوا في مأمن من غضب السلطان أو أحد مساعديه.[2]
تجليات الترف في حياة الخلفاء والأمراء
شهد العصر الثاني من الخلافة العباسية مظاهر عديدة من الترف والإسراف. ويمكن تلخيص أهم هذه المظاهر فيما يلي:
وفرة الموارد المالية للدولة
كانت أموال الخزينة تأتي بشكل رئيسي من أموال الخراج، والتي كانت تُجمع من الأهالي ومن البلدان والأمصار التابعة للدولة العباسية. يذكر المؤرخون أن هذه الأموال كانت كبيرة جدًا، حيث بلغت 78 مليون درهم في سنة 240 هـ، وفي سنة 280 هـ تجاوزت 2 مليون و520 ألف دينار.[4]
كانت هذه الأموال تُنفق سنويًا ولا يُدخر منها إلا القليل. يذكر المؤرخون أنه في عهد المعتضد والمقتدر (295-320 هـ) كان يُنفق على قصر الخليفة والخدم ما يقارب 60 ألف دينار شهريًا، بينما كان يُنفق على المطابخ والولائم أكثر من عشرة آلاف دينار شهريًا.[4]
بالإضافة إلى النفقات الأخرى التي كانت تصرف على الحراسة والسعاة والبوابين والقراء وأصحاب الأخبار والمنجمين والمهرجين والطبالين، مما رفع إجمالي نفقات دار الخلافة إلى 3 ملايين و500 ألف دينار سنويًا.[4]
بناء القصور الفخمة والباهظة
كانت قصور الخلفاء والأمراء تتميز بفخامة لا تصدق. يذكر المؤرخون أن الخليفة المتوكل كان ينفق معظم أمواله على بناء القصور الكبيرة، والتي كانت غالبًا ما تُبنى بطريقة مميزة، حيث كانت مداخلها تحتوي على ثلاثة أبواب كبيرة تؤدي إلى مجلس الخليفة.[5]
كان هذا المجلس يحتوي على خزائن للملابس على جانبيه، وعلى يساره ما يحتاج إليه من الشراب. وكان الخليفة غالبًا ما يبدأ في بناء قصر آخر بمجرد الانتهاء من بناء قصر ما، حتى بلغ عدد القصور التي بناها في عهده 20 قصرًا، أنفق عليها ما يقارب 274 مليون درهم.[5]
يبدو أن هذه القصور قد ألهمت العديد من الشعراء للتغزل بها بسبب جمال عمارتها والبذخ الظاهر فيها، حتى أن ابن المعتز وصف أحد قصور الخليفة المعتضد، وهو قصر الثريا، قائلًا:[6]
حللْت «الثريا» خير دارٍ ومنزل
فلا زال معمورًا وبورك من قصر
فليس له فيما بنى الناس مشبهٌ
ولا ما بناه الجنُّ في سالف الدهر
جنانٌ وأشجار تلاقت غصونها
فأورقن بالأثمار والورق الخضر
ترى الطير في أغصانهن هواتفًاتَنَقَّلُ من وكرٍ لهن إلى وكر
مظاهر البذخ والترف داخل القصور
لم تقتصر نفقات الدولة على بناء القصور الفخمة، بل شهدت الحياة داخل هذه القصور ترفًا أكبر وأعظم. يذكر المؤرخون أن قصر البرج الذي بناه الخليفة المتوكل كان فاحش الثراء، حيث ضم صورًا من الذهب والفضة، وكانت المفروشات فيه مغطاة بصفائح من الفضة.[5]
بالإضافة إلى وجود شجرة من الذهب الخالص وعلى أغصانها العديد من الطيور المغردة المزينة بالجواهر. وكان للخليفة سرير من الذهب وعليه تماثيل من السباع والنسور، حتى أن تكلفة القصر الواحد بلغت ما يقارب مليون و700 ألف دينار. ويبدو أن الخلفاء والأمراء كانوا يتنافسون في هذا الأمر أيهم ينفق أكثر.[5]
العبيد والإماء والخدم من الغلمان
من الأمور التي تشير إلى حياة الترف والبذخ التي سادت العصر الثاني من الخلافة العباسية، كانت ظاهرة انتشار الرقيق والجواري والغلمان الذين كان يؤتى بهم من جميع أنحاء الأرض، ومن مختلف الأجناس والملل. وعلى الرغم من أن الإسلام حصر الرق على أسرى الحرب، إلا أنه خلال هذه الفترة يبدو أن تجارة الرقيق عادت وبقوة.[7]
وشهدت هذه التجارة رواجًا كبيرًا خلال هذا العصر، حتى أُنشئت لها أسواق خاصة في كل مدينة، ويشرف عليها موظف يُعين خصيصًا لهذا الأمر يُقال له (قيم الرقيق). وكذلك الحال بالنسبة للجواري، فقد زادت أعدادهن حتى قيل إن الخليفة المتوكل كان يمتلك ما يقارب أربعة آلاف جارية.[7]
حتى أن الخطيب البغدادي وصف قصر الخليفة المقتدر بالله بأنه كان يحتوي على أحد عشر ألف خادم من الغلمان، وهو قصر واحد فقط من القصور التي كانت منتشرة بكثرة في مدينة بغداد.[2]
المراجع
- ^ “أهم الحقائق والمعلومات حول العصر العباسي”، حضارة، تم الاطلاع عليه في 17/2/2022. بتصرف.
- ^ “أهم المظاهر الاجتماعية والسياسية في ذلك العصر”، مؤسسة هنداوي، تم الاطلاع عليه في 17/2/2022. بتصرف.
- ^ شوقي ضيف، العصر العباسي الثاني، صفحة 53. بتصرف.
- ^ شوقي ضيف، العصر العباسي الثاني، صفحة 54. بتصرف.
- ^ شوقي ضيف، العصر العباسي الثاني، صفحة 55. بتصرف.
- ^ “سلمت أمير المؤمنين على الدهر”، الديوان.
- ^ شوقي ضيف، العصر العباسي الثاني، صفحة 82-83. بتصرف.
الأحوال المجتمعية في العصر العباسي الثاني
يبدو أن الوضع الاجتماعي قد تأثر سلبًا أيضًا، حيث لم يكن الناس متساوين كما كان الحال في العصر العباسي الأول أو في فترات أخرى من التاريخ الإسلامي. بل تم تقسيم المجتمع إلى ثلاث طبقات رئيسية.[3]
فئة الخلفاء والوزراء والحكام
تضم هذه الطبقة الأمراء وكبار رجال الدولة والتجار وأصحاب النفوذ. كانت هذه الطبقة تعيش في نعيم وترف لا يتمتع به الآخرون. وعلى رأسهم الخليفة الذي كان يحصل على أموال الخراج الضخمة من العراق ومن جميع الأقاليم والبلدان التابعة للدولة العباسية.[3]
فئة رجال الجيش والموظفين والتجار
تعتبر هذه الطبقة الثانية في المجتمع، وكانت تتمتع بامتيازات كبيرة سواء مادية أو معنوية. كانت حياتهم مرفهة بشكل ملحوظ بفضل ما كان يمنحه لهم الخليفة وولاة الأمر.[3]
فئة عامة الشعب من المزارعين والحرفيين
كانت هذه الطبقة هي الأكثر تضررًا من عامة الشعب، وغالبًا ما كانت تعيش في فقر وبؤس شديدين. ويشمل ذلك الرقيق والعبيد، بالإضافة إلى أهل الذمة من الطوائف والملل الأخرى.[3]