تمهيد
الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وأنزل علينا الكتاب المبين، وهدانا إلى صراطه المستقيم. نحمده على جزيل عطائه، ونسأله المزيد من فضله وإحسانه. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
دعوة إلى تقوى الله
أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي سبيل النجاة والفلاح في الدنيا والآخرة. والتقوى هي امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، وهي وصية الله للأولين والآخرين. قال تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّـهَ).[١] فاستمسكوا بتقوى الله واعملوا الصالحات تفلحوا في الدارين.
القسم الأول
عباد الله، إن الإنفاق في سبيل الله من أعظم القربات وأجل الطاعات، وهو باب واسع للخير والبركة. فالمنفق في سبيل الله يجني ثمار إنفاقه في الدنيا والآخرة، ويحظى برضا الله ومحبته. لقد وردت العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة التي تحث على الإنفاق وتبين فضله وأجره العظيم.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّـهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّـهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).[٢] فتأملوا في هذا الفضل العظيم، كيف يضاعف الله أجر المنفقين في سبيله أضعافاً مضاعفة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الرَّجلُ في ظلِّ صدقتِه حتَّى يُقضَى بين النَّاس).[٣] ففي يوم القيامة، حيث تدنو الشمس من الرؤوس، يكون المتصدق في ظل صدقته، يحميه الله من حر ذلك اليوم وكربه. فأين مالك أيها الحبيب إن لم يكن لك ظلاً يوم القيامة؟
لقد ضرب لنا السلف الصالح أروع الأمثلة في الإنفاق والبذل والعطاء، لأنهم كانوا يعلمون حقيقة هذه الدنيا وزوالها، وأن ما يبقى للإنسان هو عمله الصالح وصدقته الجارية.
فعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (أمرَنا رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أنْ نتصدقَ، فوافقَ ذلك عندي مالًا فقلتُ: اليومَ أسبقُ أبا بكرٍ إن سبقتُهُ يومًا قال: فجئتُ بنصفِ مالي، فقال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: ما أبقيتَ لأهلِكَ؟ قلتُ مثلهُ، وأتى أبو بكرٍ بكُلِّ ما عنده، فقال يا أبا بكرٍ: ما أبقيتَ لأهلِكَ؟ فقال: أبقيتُ لهمُ اللهَ ورسولَهُ، قلتُ: لا أسبِقُهُ إلى شيءٍ أبدًا).[٤]
فانظروا كيف كان الصحابة يتنافسون في فعل الخيرات، ويسارعون إلى الإنفاق في سبيل الله، طمعاً في رضا الله والفوز بالجنة. لأنهم كانوا على يقين بأن ما يقدمونه في هذه الدنيا سيجدونه مدخراً لهم في الآخرة. قال تعالى: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).[٥]
اعلموا أيها المؤمنون أن للصدقة آداباً يجب مراعاتها، منها: إخلاص النية لله تعالى، وأن تكون الصدقة من مال حلال طيب، وأن تكون في السر إلا إذا كان في إظهارها مصلحة، وأن ينفق الإنسان مما يحب، امتثالاً لقوله تعالى: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّـهَ بِهِ عَلِيمٌ).[٦] كذلك المبادرة اليها وعدم التأخير.[٧] وتجنب المن والأذى.
إن أبواب الإنفاق واسعة ومتنوعة، فلا تقتصر على إعطاء المال للفقراء والمساكين، بل تشمل كل عمل صالح ينفع الناس. فتيسير الأمور على المعسرين صدقة، وإقراض المحتاجين قرضاً حسناً صدقة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما مِن مُسلِمٍ يُقرِضُ مسلمًا قرضًا مرَّتينِ إلَّا كانَ كصدقتِها مرَّةً).[٨] وبناء المساجد والمستشفيات والمدارس صدقة، وإصلاح الطرق والمرافق العامة صدقة، وكفالة الأيتام صدقة، والإصلاح بين المتخاصمين صدقة، ومساعدة المحتاجين صدقة، وتخفيف الأسعار عن المسلمين صدقة، وإعارة الأدوات والمتاع الذي يحتاجه الناس صدقة.[٩]
فلا تبخلوا عباد الله وأنفقوا مما رزقكم الله، ولا تخافوا الفقر، فإن الله هو الرزاق ذو القوة المتين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
القسم الثاني
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
أيها المسلمون، اعلموا أن الإنفاق دليل على صدق الإيمان، وبرهان على قوة اليقين. فالمؤمن الحق هو الذي يبذل من ماله في سبيل الله، ولا يخشى الفقر والعوز.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ، والصَّبْرُ ضِياءٌ، والْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها، أوْ مُوبِقُها).[١١]
تذكروا أنكم سترحلون عن هذه الدنيا الفانية، وستقفون أمام الله تعالى للحساب، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. فصلوا وسلموا على نبيكم محمد، امتثالاً لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).[١٢]
الدعاء
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا وارحمنا وعافنا واعف عنا.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم اجعلنا من المتصدقين والمتصدقات، ويسرنا للصدقة وتقبلها منا.
إلهنا ما خاب من دعاك ولا رُدَّ من رجاك، ولا شقي من طلب هداك.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا وأرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه.
عباد الله: (إِنَّ اللَّـهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسانِ وَإيتاءِ ذِي القُربى وَيَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ).[١٣]فاذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم وأقم الصلاة.
المصادر
- سورة النساء، آية:131
- سورة البقرة، آية:261
- رواه ابن حبان، في المقاصد الحسنة، عن عقبة بن عامر، الصفحة أو الرقم:268، صحيح.
- رواه الترمذي، في سنن الترمذي، عن عمر بن الخطاب، الصفحة أو الرقم:3675، صحيح.
- سورة البقرة ، آية:110
- سورة آل عمران، آية:92
- سعيد بن وهف القحطاني،الزكاة في الإسلام في ضوء الكتاب والسنة، صفحة 321-344. بتصرّف.
- رواه ابن ماجة، في سنن ابن ماجة، عن عبد الله بن مسعود، الصفحة أو الرقم:1987 ، حسن.
- محمد صالح المنجد،دروس للشيخ محمد المنجد، صفحة 6. بتصرّف.
- فيصل آل مبارك،تطريز رياض الصالحين، صفحة 36. بتصرّف.
- رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبي مالك الأشعري، الصفحة أو الرقم:223، صحيح.
- سورة الأحزاب، آية:56
- سورة النحل، آية:90
