مقدمة
يشتهر العصر العباسي بثرائه الأدبي والثقافي، وبروز العديد من المؤلفات النقدية التي أثرت في مسيرة الأدب العربي. تمثل هذه الكتب محاولات جادة لوضع معايير للتقييم الأدبي، وتحليل النصوص الشعرية والنثرية، وبيان مواطن الجمال والقبح فيها. نستعرض في هذا المقال بعضًا من أبرز هذه المؤلفات، مع التركيز على منهجية كل مؤلف وأهم القضايا التي تناولها.
نظرة في كتاب البيان والتبيين للجاحظ
يعتبر كتاب البيان والتبيين للجاحظ من أهم الكتب التي ألفت في النقد والبلاغة. تناول الجاحظ في هذا الكتاب العديد من المسائل النقدية، وعلى رأسها قضية اللفظ والمعنى، حيث رجّح كفة اللفظ على المعنى، مبيناً أن المعاني متاحة للجميع، لكن التفوق يكمن في صياغة هذه المعاني بأسلوب رفيع وبلاغة متقنة. فالألفاظ، برأيه، هي التي تعكس قدرة الكاتب وتميزه.
كما تناول الجاحظ قضية الاحتجاج، مستعرضاً مجموعة من خطب العرب الشهيرة، وقام بتحليلها وبيان جوانبها البلاغية، وكيفية تعامل الخطيب مع النص، وترتيب الحجج، وتوضيحها بهدف إقناع الجمهور بالفكرة المطروحة. فالبلاغة، وفقاً للجاحظ، ليست مجرد تزيين للكلام، بل هي أداة للإقناع والتأثير. استدل الجاحظ في كتابه بالعديد من الشواهد والأمثلة التي ترسخ أهمية البيان والتبيين في الخطابة والشعر.
يقول الجاحظ في البيان والتبيين، موضحًا أهمية البيان: “البيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله، كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل، لأن مدار الأمر على الإفهام، وعلى الإبانة، وعلى إيصال المعنى إلى القلب“.
تحليل كتاب أدب الكاتب لابن قتيبة
يعد كتاب أدب الكاتب لابن قتيبة من الكتب الهامة التي ظهرت في العصر العباسي، حيث سعى ابن قتيبة إلى وضع قواعد وأصول للكتابة، وتوجيه الكتّاب نحو الأسلوب الأمثل. يذكر ابن قتيبة أن دافعه لتأليف هذا الكتاب هو انحدار مستوى الكتابة، وتدهور الذوق اللغوي لدى الكتّاب.
قسّم ابن قتيبة كتابه إلى عدة فصول، تناول في كل فصل منها جانباً من جوانب الكتابة، مثل الصرف والنحو، واستعمال الألفاظ المناسبة، بالإضافة إلى ضرورة حفظ القرآن الكريم، والاطلاع على السنة النبوية، وحفظ الشعر والأمثال العربية، وذلك بهدف صقل الموهبة وتجويد الأسلوب. كان يرى أن الإلمام بهذه العلوم والمعارف ضروري للكاتب المتمكن.
يذكر ابن قتيبة في كتابه “خير الكلام ما كان قليله يغني عن كثيره، وظاهره يدل على باطنه“.
دراسة في كتاب البديع لابن المعتز
يعتبر كتاب البديع لابن المعتز من الكتب المشهورة في العصر العباسي، حيث جمع فيه ابن المعتز ما تيسر له من فنون البلاغة، وأرفقها بالعديد من الشواهد القرآنية والشعرية، محاولاً توضيح الجوانب البلاغية فيها، والرد على من ادعى عدم وجود بلاغة عند العرب.
قام ابن المعتز بتقسيم كتابه إلى عدة مباحث، تناول فيها بعض فنون البلاغة بأسلوب نقدي وعقلي، مستخدماً المنهج العلمي للإثبات والتأكيد على أن العرب يمتلكون بلاغة أصيلة، وأنهم لم يستقوها من الفرس.
يقول ابن المعتز في مقدمة كتابه: “وقد أكثر الناس في معنى البديع، وأنا ذاكر ما قاله العلماء فيه، ثم أتبع ذلك بذكر أنواع البديع، وأشرح كل نوع منها شرحاً شافياً“.
استعراض كتاب الموازنة بين الطائيين للآمدي
يعتبر كتاب الموازنة بين الطائيين للآمدي من أوائل الكتب التي حاولت عقد مقارنة نقدية بين شاعرين أو أكثر، حيث قام الآمدي بمقارنة بين أبي تمام والبحتري، مبيناً أوجه التشابه والاختلاف بينهما، ومحاولاً تحديد الشاعر المتفوق.
قام الآمدي بتحليل بعض القصائد والمقطوعات الشعرية التي تميز بها الشاعران، مبيناً مواطن الإبداع فيها، ثم قارن بينها وبين ما ورد عن الشاعر الآخر من أشعار مماثلة، ليكشف في النهاية عن الشاعر الذي تفوق على زميله في تلك القضية الشعرية، سواء من حيث الأسلوب أو الصورة الشعرية.
يقول الآمدي في مقدمة كتابه: “أما بعد، فإني نظرت في أشعار أبي تمام والبحتري، فرأيت الناس مختلفين فيهما اختلافاً شديداً، فمنهم من يفضل أبا تمام تفضيلاً لا يرى للبحتري معه فضلاً، ومنهم من يفضل البحتري تفضيلاً لا يرى لأبي تمام معه فضلاً، ومنهم من يذهب إلى التسوية بينهما“.
قراءة في كتاب الوساطة للقاضي الجرجاني
يعتبر كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي الجرجاني من الكتب الهامة، لأنه يتناول حياة وأشعار شاعر كبير من شعراء الأدب العربي وهو المتنبي. يحاول القاضي الجرجاني أن يقف موقفاً محايداً، فيذكر الآراء المؤيدة والمعارضة لشعر المتنبي، ثم يوازن بينها، ويستدعي نصوصاً شعرية للمتنبي، ويطبق عليها هذه الآراء، ليرى مدى صحتها أو يرد عليها وينقضها.
سعى الجرجاني في كتابه إلى جمع الآراء المختلفة حول شعر المتنبي، ثم اتخاذ موقف الحكم المحايد الذي يميز بين الآراء المجحفة والصحيحة، مع إجراء دراسة نقدية تطبيقية، مما يدل على أن الجرجاني كان يتمتع بمنهجية علمية في كتابه.
يقول القاضي الجرجاني: “ولقد طالعت دواوين الشعراء المتقدمين والمتأخرين، فلم أجد فيهم من بلغ من الشهرة والذكر مثل ما بلغه المتنبي، ولا من كثرت فيه الآراء المختلفة مثل ما كثرت فيه“.
تحليل كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة
سعى ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء إلى الوقوف على أبرز الشعراء، وتبيان أفضلية أشعارهم، والسبب وراء تفوقهم. تقوم منهجية ابن قتيبة على التعريف بالشاعر وعصره، والحديث عن أحواله وعلاقاته، ووصف البيئة الاجتماعية المحيطة به، ثم ذكر آراء العلماء والنقاد فيه، ومناقشتها بالتفصيل، وكشف مواطن الخطأ فيها.
قسم ابن قتيبة الشعراء إلى طبقات، معتمداً على الجودة والبراعة كمقياس للتوزيع، مخالفاً بذلك من سبقه في هذا المجال، الذين كانوا يرتبون الشعراء حسب أزمنتهم أو أماكن عيشهم، فلم يفرق ابن قتيبة بين الشاعر القديم والمحدث إلا بقيمة الشعر.
يقول ابن قتيبة في مقدمة كتابه: “فإني لم أرتب الشعراء على قدر أزمانهم، ولا على مقادير بلدانهم، ولكن رتبتهم على قدر جودة شعرهم، وحسن معانيهم، وكثرة نوادرهم، وصحة ألفاظهم، وسلامة طبعهم“.
المصادر
- أبو عمرو بن الجاحظ، البيان والتبيين.
- ابن قتيبة الدنيوري، أدب الكاتب.
- أبو عبد الله ابن المعتز، البديع.
- الحسن بن بشر الآمدي، الموازنة بين الطائيين.
- القاضي الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه.
- ابن قتيبة الدنيوري، الشعر والشعراء.